الدرس السوري لا ينسى!
يقول أنور مالك في مقدمته أن غايته من هذا الكتاب: ‘ أن تعرف الأجيال الحالية والقادمة، سواء من أبناء الشعب السوري أو غيرهم حقيقة العابثين بالدماء والأعراض’، وأنه سيترك كتابه هذا: ‘عبرة للمسؤولين في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة وكل العالم، حتى يدركوا جيداً مسؤوليتهم الأخلاقية والتاريخية في العبث بدماء الشعوب، لأن الدرس السوري لا ينسى أبداً، وتجربة المراقبين العرب ستبقى شاهدة على فصل خطير من الفشل الذريع، الذي تغرق به الجامعة العربية كعادتها قي التعامل الساذج والهزلي مع الأزمات العربية مثلما يجري في سوريا الجريحة’.
والواقع أن هذه التوصيف الحاد لسذاجة وهزال الجامعة العربية، لا يكاد يفارق قارئ الكتاب على مدار صفحاته، وخصوصاً حين نرى الآلية التي رتبت بها البعثة، والطريقة الضبابية الغامضة التي صيغ بها بروتوكولها، الموقع بين الجامعة العربية ونظام الأسد… ناهيك عن هذا التغابي الدائم في النظر إلى نظام الأسد باعتباره (نظاماً) فيه أبسط درجات الإحساس بالمسؤولية والالتزام بمصلحة وطن أو شعب، بينما تكشف ممارساته على أرض الواقع، أنه أقرب إلى مافيا، لا تردعها أي قيمة أخلاقية أو إنسانية عن فعل أي شيء، مهما كان الثمن!
ولعل قصة التحاق أنور مالك بالبعثة تبدو بذاتها قصة طريفة، ففي الوقت الذي كان يفكر فيه الرجل بتقديم طلب إلى السفارة السورية بباريس للسماح له بزيارة سورية كصحفي وحقوقي مستقل، وقد نصحه من شاورهم كما يقول – ألا يفعل، لأن المخابرات السورية ستجري تحقيقاً عنه ويعرفون حقيقة مواقفه، ورده اتصال في مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2011، من رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان د. فيوليت داغر، تعرض عليه الانضمام إلى بعثة المراقبين العرب التي تزمع الجامعة العربية إرسالها إلى سورية في حال موافقة الحكومة.
مجلس اسطنبول ولونا الشبل!
لم تكن فيوليت داغر التي كانت تستشير السيد مالك في أمور كثيرة تتعلق بالشأن الحقوقي والسياسي الجزائري والمغاربي بصفة عامة من قبل، سوى زوجة هيثم مناع، الذي سيلتقيه أنور مالك في أحد الفنادق في القاهرة قبل توجه البعثة إلى دمشق، ليحذره (أي مناع) بالحرف الواحد كما يقول: ‘خذوا بالكم من تقديم أي شيء يكون في صالح مجلس اسطنبول’!
كان مناع يشترك مع نظام بشار الأسد في إطلاق تسمية (مجلس اسطنبول) على المجلس الوطني السوري الذي كان قد تأسس حديثاً، ومن الواضح من خلال المحاورة التي ينقلها أنور مالك معه، تلك الروح الكيدية التي يتمتع بها مناع، إن لوصف ثوار الداخل بأنهم ‘صبيان ومراهقون’ أو لوصف المجلس بأنه: ‘أكثر منهم صبيانية ومراهقة’ ص (57) وعندما رد مالك عليه:
‘أنا يا دكتور هيثم، لا يهمني أمر الخلافات بينكم، أو الصراعات التي تجري، ما يهمني في هذا الأمر هو الحقيقة التي على أرض الواقع، وساتحدث عنها ولو تكون في صالح الشيطان’ رد مناع بلهجة فيها بعض الحنق:
‘لا تصدق ما تراه في المسيرات التي تبثها الجزيرة، ولا اللافتات التي ترفع شعارات بأمر جهات ما، ولا يمكن أن نعطي كل الأهمية للغوغاء في الداخل’.
هكذا يتضح أن هيثم مناع الذي ينتقد معارضة الخارج لأنهم: ‘يعيشون في فنادق الخمس نجوم على حساب الشعب السوري’ على حد تعبيره، لا يقيم إي احترام لثوار الداخل الذين يصفهم بالغوغاء، ص (58) على أن كل هذا الحديث والآراء التي تنضح بروح الكراهية والاستعلاء، لا يستغربها القارئ حين يشير مالك إلى الرسائل الكثيرة التي رآها في جوال هيثم مناع من مذيعة النظام السوري (لونا الشبل) مستشارة بشار الأسد الإعلامية، حين فتح مناع صندوق الرسائل ليقدم له الدليل عن تلقي المجلس الوطني السوري ‘تمويلات من هيئات دولية مشبوهة’، ولا مع زوجها المذيع لاحقاً في قناة الميادين سامي كليب الذي كان يكتب أشنع الافتراءات عن الثورة في جريدة (السفير) اللبنانية في تلك الفترة.. وينقل أنور مالك نص الحوار حول هذه النقطة كما يلي:
‘قلت له: دكتور لونا الشبل انت على اتصال بها. فرد من دون أدني تردد: نعم، مع زوجها سامي كليب، وهما من أحبابي’. كان هيثم مناع قد أوصى المراقبين حين ودعهم بالقول حسب انور مالك – ان ما عليهم إلا بالصبر حتى إن قضوا شهوراً في هذه المهمة… وقد علق مالك بالقول:
‘أحسست من كلام هيثم مناع أنه لا يريدنا ممثلين للجنة العربية لحقوق الإنسان التي أسسها منذ سنوات برفقة زوجته فيوليت داغر، بل مجرد ان نصير بيادق أرسلها لتخدم أطروحاته فيما يخص الأزمة السورية!
بعثة لا تصلح لمراقبة فندق!
أبلغ وصف لحال لجنة المراقبين العرب التي أوفدتها الجامعة العربية إلى سوريا لمراقبة سحب الآليات العسكرية ووقف إطلاق النار، ما جاء على لسان المراقب المغربي د. عبد الحميد الوالي في الصحفة (145) حين قال في اجتماع عاصف بحضور رئيس اللجنة الجنرال محمد أحمد مصطفى الدابي: ‘ الإمكانيات المتاحة لا تصلح لمراقبة فندق، فضلاً عن بلد يعيش أزمة قوية وخطيرة’!!
قبل ذلك يوضح أنور مالك الإمكانات المرصودة للبعثة بالقول: ‘أخبرنا الدابي أن ميزانية البعثة هي مليون دولار فقط، لذلك ليس بالإمكان توفير كل المتطلبات، وقد تحدث المراقبون عن الهواتف، فأخبرنا أنه تم توفير خمسة خطوط ثريا ستكون بحوزة رؤساء الأفواج، اما الهواتف الشخصية فهي على حساب المراقبين، وهو ما لم يعجب الحاضرين وقد ظهر الامتعاض عليهم، لأنه من الضروري أن يكون في حوزة كل مراقب هاتف، وكاميرا تصوير وكل متطلبات المراقبة’ ومن المضحك المبكي أن السيارات الخاصة بالبعثة والتي قررت السعودية والعراق والأردن أن تتبرع بها، لم تصل في الأيام الأولى من عمل البعثة، مما اضطرها للاستئجار من وكالة خاصة.. وقد تبين في إحدى زيارات البعثة لحي بابا عمرو الثائر، قبل تهديمه فوق رؤوس ساكنيه على يد جيش الأسد لاحقاً، أن السائق (مدين) الذي تم دسه، لمرافقة البعثة إلى داخل الحي الثائر الذي كان يصعب على قوات النظام دخوله بسبب سيطرة الجيش الحر عليه آنذاك، ليس سوى ضابط في الفرقة الرابعة باعترافه هو نفسه عندما كشف أهل الحي أمره وكادوا يقتلونه، ويصف أنور مالك تلك اللحظات المثيرة بالقول:
‘ظل إصرارهم على إنزاله هو سيد الموقف، وعندما لم يجد حلاً لإنقاذه من أي مكروه، قد يتعرض له في حال تمكنهم منه، أمره الدابي أن يعيد السيارة إلى الخلف حتى ننسحب من المكان، ما داموا قد رفضوا دخولنا الحي وأخبرهم رئيس البعثة أننا سنعود إلى المحافظة، ونأتي من دون أي سائق أو مرافق سوري. وكأنه لم يصدق نجاته اندفع السائق بالسيارة راجعاً، فارتطم بالأخرى التي كانت تقف وراءنا، وقام بعض الأطفال برمينا بالحجارة والفضلات وهم يصرخون فيها بالسب والشتم، لأننا صرنا مخترقين من طرف مخابرات بشار الأسد الذي وصفوه بشتى النعوت. نجحنا في مغادرة المكان، وقد كان السائق يرتعش ولم يتمكن من السيطرة على السيارة أو على نفسه، فقد تبول في مكانه’.
يوضح أنور مالك أن السائق أعطيت له سترة الجامعة العربية وقبعة وبطاقة علقها على صدره… ويشير إلى تورط رئيس البعثة الجنرال محمد أحمد مصطفى الدابي بمعرفته المسبقة بهوية الضابط، وتواطؤه مع السلطات السورية… لكن أهم ما يكشفه مالك في هذه الحادثة، الحوار الذي ينقله مع هذا الضابط بعد خروجهم في منطقة الخطر، والذي يصور نفسية هؤلاء الذين لا يخجلون من الإدعاء والتبجح حتى أمام الأشخاص الذين تبولوا أمامهم من الخوف. يروي مالك ص (162): ‘ونحن نقترب من قصر المحافظة، توزعت فجأة بملامح الضابط مدين مسحة من الغضب، الذي دفن كل الخوف الذي سكنه من قبل، وقال بصوت عال: من واجبي أن أستغل أي فرصة أو وسيلة تدخلني هذا الحي ولا أحد له الحق في محاسبتي! فقلت له: ليس على حساب مهمتنا النبيلة، كن رجلاً واستغل فرصة أخرى. فرد علي: أنا رجل أساوي آلاف الرجال. فقلت له: لهذا كنت ترتجف، وترتعش من الجبن، وتبولت على نفسك! دعك من العنتريات الفارغة… فتدخل الدابي: خلاص سنعالج الأمر مع المسؤولين’.
إنكار لا يتصوره عقل!
منذ أول زيارة للبعثة لقصر محافظ حمص غسان عبد العال، لم يتوقف نظام الأسد عن محاولة خداع اللجنة وتزوير الحقائق، إذ يذكر أنور مالك أنه في أثناء الاجتماع بالمحافظ، تردد عليهم عدة مرات أحد الموظفين ليخبرهم أن والد الأبناء المختطفين من قبل (العصابات المسلحة) يود التحدث للمراقبين. كان الرجل يرتعش ويده معلقة في عنقه على أساس أنها مشلولة، وأنه مريض وملابسة رثة، وكان يتحدث باكياً وبصوت مبحوح راجياً المراقبين أن يساعدوه على عودة أبنائه الثلاثة. ويوضح مالك هنا: ‘وهو الشخص نفسه الذي التقيته فيما بعد بتاريخ 2/1/2012، بالقرب من بابا عمرو في منطقة يسيطر عليها قناصة النظام، وكان في وضعية جيدة، ويمتطي سيارة فارهة، ومعه ابنته وقد نزل إلينا، وتحدث عن ابنته التي هجّرها المسلحون من بيتها في بابا عمرو، وسيطروا على محتوياته، ولم يتحدث عن قصة أبنائه الثلاثة، ولما قلت له: أنني كنت حاضراً في زيارته لنا بمبنى المحافظة.. راوغ وقال: سيأتينا إلى الفندق غداً بالملف كاملاً، ثم غادرنا ولم يأتِ إلى الفندق، ولا اتصل بنا مرة أخرى’.
وعلى مدار صفحات الكتاب، يروي أنور مالك بتفصيل وإسهاب، عشرات محاولات نظام الأسد، لخداع اللجنة وفبركة شخصيات وهمية لقلب الحقائق، لكن المثير ما يثبته من جرأة رجال النظام، في تكذيب المراقبين أنفسهم، وإنكار ما رأوه بأعينهم، وقد طال الأمر الجنرال الدابي نفسه.. ففي الفصل الخامس عشر الذي يحمل عنوان: (جلسة عاصفة مع محافظ حمص) ينقل أنور مالك المحاورة التالية بين الدابي والمحافظ:
الدابي: العسكر يقصفون حي بابا عمرو بحضورنا.
المحافظ: مستحيل أن يقصف الجيش، هذا لم يحدث مطلقاً.
الدابي: بل حدث وأمامنا سيادة المحافظ.
المحافظ: اكيد المسلحون هم من كانوا يطلقون النار لتغليطكم.
الدابي (وقد تجهمت ملامحه): المسلحون لا يملكون دبابات.
قاطعه المحافظ بلهجة التعجب: دبابات… غريب!
الدابي: نعم، دبابات شيلكا!
العقيد الذي يجلس بجانب المحافظ: لو تسمح سيادة الجنرال، نحن لم نخرج الدبابات أبداً من الثكنات.
الدابي: دعنا من انكم لم تخرجوا الدبابات… فهذا أمر ثابت ووقفنا عليه، نحن نتحدث عن القصف الذي حدث، هو من دبابات شيلكا، وهذا لا يمكن أن يشك فيه أحد!
المحافظ: هذا مستحيل سيادة الجنرال.
الدابي: لا تقل مستحيل سيادة المحافظ، أنا جنرال وأعرف من صوت الطلقة نوع السلاح الذي خرجت منه، وحتى المسافة التقريبية التي جاءت منها. القصف الذي حدث هو من دبابات وهو من خارج حي بابا عمرو، لقد التقيت مسلحين وليس في أيديهم إلا كلاشينكوف، أما الدبابات فلا يملكونها.
المحافظ: توجد دبابة سيطر عليها المسلحون منذ مدة، وهي بحوزتهم إلى الآن، وربما استعلموها.
الدابي: لو سمحتم خلونا في الواقع، ودعونا من الفرضيات التي لا يمكن أن تقنع أحداً. وكأنه يستدرك: في رأيكم أين الدبابة الآن.
المحافظ: المعلومات التي بحوزتنا تؤكد أنها في حي بابا عمرو.
الدابي: هذا غير منطقي إذن؛ لأن القصف يأتي من مسافة تتراوخ ما بين 10 و15 كم!
تحولات الدابي!
يعلق أنور مالك على هذه المحادثة بالقول: ‘لقد أعجب المراقبون جميعاً، وأنا أحدهم، بصرامة الفريق أول الركن الدابي في حديثه مع المحافظ والمسؤولين، وتفاءلت بأن المهمة ستكون كما أريد لها، حيث ننجح في تنفيذ بنود البروتوكول بحيادية تامة’. لكن الدابي يفقد هذه الحيادية تماماً فيما بعد، وينحرف في أدائه وممارساته بعد عدة اجتماعات مغلقة مع وزير الخارجية وليد المعلم وبعض المسؤولين الأمنيين في دمشق، حيث تم إنزال أعضاء البعثة في فندق (إيبلا الشام) وهو فندق منعزل على طريق مطار دمشق الدولي، فيما انزل الدابي لوحده في فندق في قلب دمشق، لا يذكر الكاتب اسمه، ويرجح من الصور المنشورة أنه فندق الشام!
ومن أكثر الحوادث استفزازاً التي يرويها مالك عن انحياز الجنرال الدابي وعدم اكتراثه بالمأساة الإنسانية التي يتعرض لها الشعب السوري، والتي رأى فصولها بعينيه، ما يذكره في الفصل (20) عن قنص الطفل محمد أحمد الراعي في حي بابا عمرو، ومما يقوله:
‘توجهت نحو الدابي الذي كان واقفا قبالة بوابة المؤسسة برفقة قائد الحاجز، وأخبرته بما حدث، بل كتبت له المعلومات عن الطفل الذي تعرض للقنص، وسلمته الورقة من أجل أن يتم توثيق الحادثة، غير أنه فاجأني برميها على الأرض، ولما سألته عن سبب ذلك التصرف غير المقبول بالمرة، رد علي قائلا: ومن يدريك أن قناصة تابعين للحكومة هم من قتلوه! قلت: سيادة الفريق، ليست من صلاحيتنا معرفة الجهة التي قتلت، ولكن من صميم عملنا توثيق الحادثة التي وقعت أمامنا. أظهر اللامبالاة، لذلك رحت أؤكد له والحنق قد بلغ مني مبلغاً كبيراً: كنا قبل مشوار تحت العمارة التي جاء منها الرصاص، ورأيت بنفسك أنه في طابقها الأرضي يوجد عساكر تابعون للنظام، فلا يعقل أن يكون في سطحها قناصة يتبعون للمعارضة! أضفت له وهو لم ينبس بننت شفة: لو كان قناصة سطح العمارة من المعارضة والعسكر المتمركز في طابقها الأرضي من النظام، فهذا يعني أن السوريين يعبثون بنا، والأفضل لنا أن نغادر البلاد. ختم الدابي حديثنا قائلاً: سننظر في الأمر حين نرجع إلى دمشق’.
بالطبع لم ينظر الدابي بالأمر لاحقاً، بل لم يذكر قصة الطفل في تقريره على الإطلاق، واستمر في الادلاء بتصريحات لوكالات أنباء اجنبية بأن الوضع على ما يرام، وعمل البعثة يسير بشكل جيد، متحاشياً التصريح للعربية والجزيرة اللتين وصفهما بأنهما غير حيادتين و’تضخمان الأحداث كثيراً’، ناهيك عن التحاق أفراد للبعثة من السودان ، كان ينفرد الدابي بهم لاحقاً، ثم مراقب عراقي عينه كرئيس فوج رغم أنه الأصغر سناً وليس لديه خبرة كبيرة في سجل المراقبة الدولية، ما أثار حنق وامتعاض الكثير من المراقبين الآخرين… الذين تعامل الدابي مع اعتراضاتهم اللاحقة بفوقية وعنهجية، متقمصاَ شخصية العسكري الذي لا يحب لأحد أن ينقاشه في أوامره ومسؤولياته!
وعلى هذا النحو تسير صفحات الكتاب، الحافل بأجواء تآمرية وتضليلية من النظام في كافة تحركاته وترتيباته، وسط تعاون الأهالي والناشطين الذين يشيد بهم، ويبرز شجاعتهم ونجاحهم في إحراج النظام ورئيس البعثة معاً، عبر تصوير كل شيء بكاميراتههم وبثه للمحطات الفضائية التي قاطعها الدابي، مما تسبب بكثير من الإحراج لكليهما. لكن أبرز مفاجآت الأحداث كان ظهور وزير الداخلية برفقة آصف شوكت فجأة في فندق (سفير حمص) حيث أقامت البعثة في الأيام الأولى من العام 2012، حيث يتحدث مالك عن الإجراءات الأمنية التي اتبعت في الفندق كأجهزة كشف المفتجرات، ووقوف الحرس أمام المصاعد والمدرجات وإحكام الحصار على الأبواب، وإحضار من يتذوق الطعام أمامهم قبل ان يشرعوا بالأكل… ثم يسرد الحوارات التي دارت معهما، ومنها ما تعلق بقضية المعتقلة (ريم الغزي) التي نقل قضية اعتقالها للشعار وشوكت، يقول مالك:
‘سألني شوكت: ما اسم السجينة؟ أجبته: ريم الغزي. قال: اطمئن سنرد عليك بشأنها في القريب العاجل. أما وزير الداخلية الشعار فقال: إذا لم تكن متورطة بالدماء، ليست مشكلة، سنطلب من القضاء تسريع النظر في قضيتها والإفراج عنها. قلت له: حسب كلام الشخص المتصل أن الفتاة تعمل مخرجة سينمائية. ابتسم وقال: يوجد فنانون صاروا مجرمين!’.
من دس الفياغرا إلى محاولة الاغتيال!
يختلط المضحك المبكي في سرد وقائع وحيل النظام لتضليل المراقبين وثنيهم عن عملهم… فمن الذهاب بهم إلى الأحياء المؤيدة في حمص، وتركهم وسط بحر من المتجمهرين بحيث لا يخرجون حتى آخر النهار، إلى تعرض بعض المراقبين المكلفين بزيارة الأحياء الثائرة حصراً، لحالة إسهال مفاجئ بعد تناولهم الفطور في فندق سفير حمص، وعندما أتى الطبيب لمعاينتهم اعتبر أن ‘الأمر طبيعي يبدو أنكم لم تتعودوا على الطعام السوري’ إلى دس الفياغرا تارة أخرى في طعام المراقبين، ثم إرسال من يتحرش بهم من فتيات الليل بملابس فاضحة تحت مسمى (ناشطات المرصد السوري لضحايا العنف والإرهاب) اللواتي كن يقمن بحركات إغراء للمراقبين في بهو الفندق المحاصر بقوات الأمن… ما دفع بالمراقب العراقي لعقد زواج متعة في الفندق… إلى دس مخبرين وسجناء جنائيين بين سجناء زنازين الأمن السياسي ليتحدثوا للمراقبين عن ندمهم بما اقترفوه بحق البلد (!!!) ثم فبركة مسرحية الإفراج عن السجناء السياسيين التي يلتقط صوراً موثقة لها… لكن كل تلك الألاعيب، لم تكن مجرد محاولات تضليل مستميته ومحمومة، بل كانت تقود في حال فشلها، إلى محاولة اغتيال تعرض لها أنور مالك بعدما أعلن على صفحته على الفيسبوك إنسحابه من اللجنة… إثر رؤيته لكيفية تحرير التقارير الكاذبة التي كانت تقلب الحقائق وتبرأ النظام!
فقد تعرضت السيارة التي يستقلها مالك مع مراقبين آخرين، أثناء خروجها من حمص بتاريخ: 9/1/2012، إلى إطلاق نار كثيف من قبل قناصة فوق جسر جامعة البعث الذي يسيطر عليه النظام… كاد يودي بحياته مع مراقبين آخرين، لولا مهارة المراقب العراقي في قيادة السيارة في مثل هذه الحالات. ومن الجدير ملاحظته هنا أنه لم يشفع للمراقب العراقي انحيازه للنظام، في استثنائه من محاولة الاغتيال لإتهام المجموعات المسلحة بذلك. أما آخر فصول كوميديا الموت السوداء هذه، فكان ظهور مذيعة قناة الدنيا فجأة في مكان الاغتيال المقرر، بعد تعطل محرك السيارة، لتحاول إجراء لقاءات مع المراقبين، وفي هذه اللحظة يروي أنور مالك المشهد على النحو التالي:
‘ فتحت الباب وأنا أهم بالنزول، وإذا بصحفية من قناة الدنيا الفضائية تضع ميكروفونها في فمي وتسألني: ماذا حصل لكم؟! وأنا أنظر إليها باستغراب عجيب قلت لها: كم أين أتيت في هذه اللحظة التي نتعرض فيها لمحاولة اغتيال؟! أجابت كمن تريد ان تدفع عن نفسها تهمة ما: كنت مارة من هنا مصادفة، وإذا بي أسمع الرصاص، فسارعتً إليكم! ضحكتُ وقلت لها: لدي تجربة طويلة في الإعلام، فأول مرة أجد الصحفي يسبق الحادثة، وينتظر وقوعها حتى ينال السبق، كان هنا في سوريا ومع أنت بالضبط’!!
عاش ليفضح نظام الأسد!
نجا مالك أنور من عملية الاغتيال، وتمكن من مغادرة سوريا، وعاش ليؤلف هذا الكتاب- الوثيقة، عن واحد من أشرس وأبشع أنظمة الكذب والإجرام التي عرفها تاريخ العرب الحديث… استخدم كل التسجيلات والوثائق والصور التي لديه، ليوثق شيئاً، يبدو أحياناً غير قابل للتصديق. خلال معاينته لإحدى جثث الجنود التي قتلهم النظام أثناء انشقاقهم، التقط أنور مالك في البداية صوراً لهم… ثم عاد ليتقط صوراً له مع تلك الجثث. فعل ذلك خوفاص من اتهامه بأنه جلب الصور من شبكة الانترنت، وأنه ألف الرواية من خياله! ولهذا نفهم لماذا نشر في متن الكتاب عشرات الصور له في المواقع المختلفة، ومع الأشخاص المعنيين، كان يدرك ان نظام يكذب كل هذا الكذب، لن يتردد في تكذيب كتابه فيما لو تقاعس في تقديم الوثائق والأدلة كاملة.
أهدى أنور مالك كتابه إلى: (أحرار الثورة السورية الخالدة) وخص بالذكر أهالي حمص الذين عايشهم وأحب فيهم بساطتهم وإخلاصهم وصدقهم ورباطة جأشهم على الرغم من النار والدمار كما يقول.. ورغم أن أحداث الثورة تجاوزت حدث إرسال المراقبين العرب إلى سوريا برمته، وتقرير الدابي المفبرك بكل انحيازه وغلوه في التزوير، فإن مما لا شك فيه أن هذا الكتاب سيحتفظ بأهميته الخاصة، في سياق رسم صورة نظام الأسد المدهشة في استغراقها في الكذب والخداع والإجرام والتضليل إلى حد طالما أذهل المؤلف، وفي سياق رسم صورة فشل الجامعة العربية في القيام بدورها او بأي دور في لحظة كان يمكن أن تكون أكثر حسماً وإنسانية… وهي صورة مرسومة بألوان حارة، مملوءة بالصدق والإحساس العميق بالشرف، من إعلامي يضع عينه على الحقيقة وعلى التاريخ، آملاً ان ينصف ثورة كان شاهداً على ما واجتهه من مآس وتأمر وتحديات!
----------------------------
- القدس العربي - ‘ كاتب سوري