مصطفى خليفة ....يوميات متلصص
@التحرك الذي بدأ في تونس فاجأ كل الناس، وأعاد إلينا الأمل
@ انخرطنا في مشروع سياسي لكنه فشل على مستوى العالم كله
@انتقلت بين خمسة سجون منها المزة وتدمر والبالوني وصيدنايا
@ الكتابة حلم طفولة والتعديلات على النص ضرورية احيانا
@ اعضاء مجلس الشعب السوري يمكن سوقهم بالعصا كالاغنام
* لو قيض لك أن تعيد كتابة "القوقعة" مرة أخرى فهل ستكتبها كما هي الآن؟
ـ من المؤكد أن روحية العمل وجوهره سيبقيان كما هما، ولن يكون هناك سوى إضافات قد تعادل 10% وذلك على مستوى الصنعة الروائية.
* لماذا الإضافات وقد لقي العمل قبولاً من القراء على اختلاف مستوياتهم المعرفية؟
ــ لأن بعض الأصدقاء ممن قرأوا العمل نقلوا إلي ملاحظات وجيهة، مع العلم أنني تعمدت كتابة العمل بتلك اللغة التي قدمتها، وبتلك البساطة والانسيابية، والحدث الموجود فيه هو من فرض علي ذلك، وبالتالي كانت هناك حاجة شديدة للابتعاد عن كل ما هو معقد ومتقعر لغوياً، وما شابه ذلك.
* قبل "القوقعة" من هو مصطفى خليفة؟ وكم ساهمت جرابلس ـ حيث ولد ـ بتكوين شخصيته؟
ــ الحديث عن مصطفى خليفة من قبله صعب جداً، وكل ما أستطيع قوله أن مصطفى خليفة كان يحلم منذ الطفولة بأن يكون كاتباً أو روائياً، لكن الشأن العام سرقه، فانخرط بكليته في العمل السياسي الذي فرضته المرحلة التي كانت تعيشها سوريا، ومن هنا تأجل حلم الطفولة، وبعد خروجي من السجن أصبح هناك ما يشبه الإجازة من العمل النضالي بحكم الظرف الموضوعي، وليس لدوافع ذاتية، وفي تلك الفسحة الزمنية حاول الطفل تحقيق جزء من ذاك الحلم، أما جرابلس فقد تركتهامنذ أيام الطفولة واتجهت إلى حلب، ولهذا لم تترك عندي الا أثرا بسيطا، ولا يوجد منها سوى ذكريات قليلة، في حين أن المدينة تركت أثرها فيّ.
* إذن لم تكتب خلال انغماسك في العمل السياسي؟
ــ قبل سن الـ20 كانت هناك بعض المحاولات، وبعد احتراف العمل السياسي ـ الذي استغرقني كلياًـ لم تتوافر لي الفرصة، حيث كانت كتابة الأدب حينها أشبه بالترف، أما القراءة فقد ظلت حاجة أساسية مثل الهواء، وكانت تتراوح بين الأدب والسياسة، وبينما كان للرواية الاهتمام الأعظم، كانت قراءة الأعمال السياسية هي الأقل، وبالتالي كان من الصعب علي في الفترة التي كانت تعيش البلد في ظل ديكتاتورية حافظ الأسد أي منذ عام 1970 وحتى عام 1995 أن أنتج عملاً إبداعياً.
* سجنت مرتين بسبب العمل السياسي ومناهضة الوضع الذي كان قائماً، فهل خفف السجن من عزيمتك، وكم اعتبرته مأزقاً؟
ــ كان العمل السياسي خياراً شخصياً، ولهذا لم أعتبره مأزقاً في يوم من الأيام، فأثناء فترة السجن الأولى كنت ورفاقي نتوق للخروج منه لمتابعته ومعاودة النضال، وعندما خرجنا عام 1980 كان مشروعنا السياسي لازال قائماً، وبان لنا حينها بأنه بالإمكان تحقيق حلمنا، لكن في المرة الثانية سُجنت ورفاقي 15 عاماً، وبعد الخروج كان مشروعنا قد تهاوى وفشل، ليس على مستوى الذات أو سوريا أو الوطن العربي فقط، إنما على مستوى العالم، وهكذا كانت معاودة النضال على ذات الأرضية كمن يناطح الصخر.
* ما مدى الإحباط الذي تملككم بعد انهيار مشروعكم السياسي؟
ــ لا أستطيع الحديث عن سواي، أما بالنسبة لي شخصياً فإنني لم أصب بالإحباط ربما بسبب وجود نوع من التعزية الذاتية، حيث فلسفت الأمور بالشكل التالي: منذ 10 آلاف سنة، أي منذ التاريخ الإنساني المكتوب كان هناك دائماً معسكرين، وأنا أنتمي للمعسكر الذي يريد تحقيق العدالة والسلم، لكن عندما انهزم المشروع الاشتراكي، والذي كانت الماركسية منهجه ودليله لم أعتبر أن المعسكر الذي عمره 10 آلاف سنة قد انهزم، إنما يجب إيجاد وسائل وطرائق ومناهج جديدة لمعاودة النضال، وهذا قدر الإنسان.
* لطالما كانت الكتابة هي مشروع الطفولة المؤجل، فهل استطعت خلال فترة اعتقالك الثانية والطويلة إيجاد فسحة لها، وإن تحقق لك ذلك؛ فما الوسائل التي اعتمدتها لتحقيقها؟
ــ للأسف الكتابة في السجن تكاد تكون مستحيلة لعدة أسباب، أهمها أن قسماً من السجون التي عشت فيها أو مررت عليها لم تكن فيها أية وسائل للكتابة، وكنت ورفاقي نحاول اختراع وسائل جداً بدائية وبسيطة لنعبر عن ذواتنا، أو كي لا ننسى عادة الكتابة، أما في السجون التي توافرت فيها أقلام وأوراق فقد كانت هناك استحالة للكتابة ولإخراج ما نكتب، وبالتالي كان المشروع محكوم عليه بالفشل، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نكتب أي شيء ونحن داخل السجن، وحتى نكتب عنه لا بد أن نكون خارجه، ثم هناك طبيعة السجن الذي طبعنا كجيل بطابعه ويعيش داخلنا إلى درجة أننا عندما نكتب سيكون جزءاً أساسياً من كتاباتنا.
* لكن بعض السجناء السياسيين السوريين تحدثوا عن كتاباتهم في السجون، فهل كان هذا الأمر متوافر للبعض تبعاً للظرف المكاني؟
ــ قد يكون لهذا الأمر علاقة ببنية الشخص أكثر من علاقته بأي شيء آخر، وربما يعتقل شخصان في سجن صيدنايا العسكري، أحدهما يستطيع تجاوز الواقع الموجود فيه ويخلق آلية معينة لنفسه فيكتب، والآخر لا يستطيع، لكن بالنسبة لي شخصياً فإن الكتابات التي كتبتها داخل السجن قليلة، وهي عبارة عن مقطوعات أدبية صغيرة، لكنها كانت مؤلمة جداً على المستوى النفسي، وللأسف.. ليست معي لأنها بقيت داخل السجن، فالسجناء حين يخرجون يتعرضون لتفتيش شديد، وبناء على ذلك ممنوع إخراج أي شيء، ويتكرر الأمر ذاته حين يُزارون، وإن استطاع أحدنا تهريب ورقة صغيرة لزوجته فلن يكون فيها أكثر من كلمة "أحبك"، وبضع كلمات أُخر.
* استوقفتني جملتك "السجون التي عشتُ فيها"، فما هي، خصوصاً وأن لبعضها تاريخاً أسود في ذاكرة الشعب السوري؟
ــ لا أدري إن كان لذلك الأمر أهمية، ولكن على العموم انتقلت بين سجن المزة العسكري، وسجن تدمر العسكري، وسجن صيدنايا العسكري، والسجن البولوني (البالوني)، والسجن المركزي، وسجون المخابرات، وكان لكل سجن ظروفه، فعلى سبيل المثال الحلم الرئيسي للسجين في سجن تدمر العسكري أن يخرج منه حياً، لأنه معرض للموت في كل لحظة، سواء بضربة شرطي، أو بمرض معدٍ، وهناك ألف سبب وسبب للموت فيه، وهو الذي يعتبر أسوأ سجن ليس في سوريا فقط إنما لا يوازيه بتصوري إلا المعتقلات النازية، لا بل قد يتفوق عليها.
@ انخرطنا في مشروع سياسي لكنه فشل على مستوى العالم كله
@انتقلت بين خمسة سجون منها المزة وتدمر والبالوني وصيدنايا
@ الكتابة حلم طفولة والتعديلات على النص ضرورية احيانا
@ اعضاء مجلس الشعب السوري يمكن سوقهم بالعصا كالاغنام
* لو قيض لك أن تعيد كتابة "القوقعة" مرة أخرى فهل ستكتبها كما هي الآن؟
ـ من المؤكد أن روحية العمل وجوهره سيبقيان كما هما، ولن يكون هناك سوى إضافات قد تعادل 10% وذلك على مستوى الصنعة الروائية.
* لماذا الإضافات وقد لقي العمل قبولاً من القراء على اختلاف مستوياتهم المعرفية؟
ــ لأن بعض الأصدقاء ممن قرأوا العمل نقلوا إلي ملاحظات وجيهة، مع العلم أنني تعمدت كتابة العمل بتلك اللغة التي قدمتها، وبتلك البساطة والانسيابية، والحدث الموجود فيه هو من فرض علي ذلك، وبالتالي كانت هناك حاجة شديدة للابتعاد عن كل ما هو معقد ومتقعر لغوياً، وما شابه ذلك.
* قبل "القوقعة" من هو مصطفى خليفة؟ وكم ساهمت جرابلس ـ حيث ولد ـ بتكوين شخصيته؟
ــ الحديث عن مصطفى خليفة من قبله صعب جداً، وكل ما أستطيع قوله أن مصطفى خليفة كان يحلم منذ الطفولة بأن يكون كاتباً أو روائياً، لكن الشأن العام سرقه، فانخرط بكليته في العمل السياسي الذي فرضته المرحلة التي كانت تعيشها سوريا، ومن هنا تأجل حلم الطفولة، وبعد خروجي من السجن أصبح هناك ما يشبه الإجازة من العمل النضالي بحكم الظرف الموضوعي، وليس لدوافع ذاتية، وفي تلك الفسحة الزمنية حاول الطفل تحقيق جزء من ذاك الحلم، أما جرابلس فقد تركتهامنذ أيام الطفولة واتجهت إلى حلب، ولهذا لم تترك عندي الا أثرا بسيطا، ولا يوجد منها سوى ذكريات قليلة، في حين أن المدينة تركت أثرها فيّ.
* إذن لم تكتب خلال انغماسك في العمل السياسي؟
ــ قبل سن الـ20 كانت هناك بعض المحاولات، وبعد احتراف العمل السياسي ـ الذي استغرقني كلياًـ لم تتوافر لي الفرصة، حيث كانت كتابة الأدب حينها أشبه بالترف، أما القراءة فقد ظلت حاجة أساسية مثل الهواء، وكانت تتراوح بين الأدب والسياسة، وبينما كان للرواية الاهتمام الأعظم، كانت قراءة الأعمال السياسية هي الأقل، وبالتالي كان من الصعب علي في الفترة التي كانت تعيش البلد في ظل ديكتاتورية حافظ الأسد أي منذ عام 1970 وحتى عام 1995 أن أنتج عملاً إبداعياً.
* سجنت مرتين بسبب العمل السياسي ومناهضة الوضع الذي كان قائماً، فهل خفف السجن من عزيمتك، وكم اعتبرته مأزقاً؟
ــ كان العمل السياسي خياراً شخصياً، ولهذا لم أعتبره مأزقاً في يوم من الأيام، فأثناء فترة السجن الأولى كنت ورفاقي نتوق للخروج منه لمتابعته ومعاودة النضال، وعندما خرجنا عام 1980 كان مشروعنا السياسي لازال قائماً، وبان لنا حينها بأنه بالإمكان تحقيق حلمنا، لكن في المرة الثانية سُجنت ورفاقي 15 عاماً، وبعد الخروج كان مشروعنا قد تهاوى وفشل، ليس على مستوى الذات أو سوريا أو الوطن العربي فقط، إنما على مستوى العالم، وهكذا كانت معاودة النضال على ذات الأرضية كمن يناطح الصخر.
* ما مدى الإحباط الذي تملككم بعد انهيار مشروعكم السياسي؟
ــ لا أستطيع الحديث عن سواي، أما بالنسبة لي شخصياً فإنني لم أصب بالإحباط ربما بسبب وجود نوع من التعزية الذاتية، حيث فلسفت الأمور بالشكل التالي: منذ 10 آلاف سنة، أي منذ التاريخ الإنساني المكتوب كان هناك دائماً معسكرين، وأنا أنتمي للمعسكر الذي يريد تحقيق العدالة والسلم، لكن عندما انهزم المشروع الاشتراكي، والذي كانت الماركسية منهجه ودليله لم أعتبر أن المعسكر الذي عمره 10 آلاف سنة قد انهزم، إنما يجب إيجاد وسائل وطرائق ومناهج جديدة لمعاودة النضال، وهذا قدر الإنسان.
* لطالما كانت الكتابة هي مشروع الطفولة المؤجل، فهل استطعت خلال فترة اعتقالك الثانية والطويلة إيجاد فسحة لها، وإن تحقق لك ذلك؛ فما الوسائل التي اعتمدتها لتحقيقها؟
ــ للأسف الكتابة في السجن تكاد تكون مستحيلة لعدة أسباب، أهمها أن قسماً من السجون التي عشت فيها أو مررت عليها لم تكن فيها أية وسائل للكتابة، وكنت ورفاقي نحاول اختراع وسائل جداً بدائية وبسيطة لنعبر عن ذواتنا، أو كي لا ننسى عادة الكتابة، أما في السجون التي توافرت فيها أقلام وأوراق فقد كانت هناك استحالة للكتابة ولإخراج ما نكتب، وبالتالي كان المشروع محكوم عليه بالفشل، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نكتب أي شيء ونحن داخل السجن، وحتى نكتب عنه لا بد أن نكون خارجه، ثم هناك طبيعة السجن الذي طبعنا كجيل بطابعه ويعيش داخلنا إلى درجة أننا عندما نكتب سيكون جزءاً أساسياً من كتاباتنا.
* لكن بعض السجناء السياسيين السوريين تحدثوا عن كتاباتهم في السجون، فهل كان هذا الأمر متوافر للبعض تبعاً للظرف المكاني؟
ــ قد يكون لهذا الأمر علاقة ببنية الشخص أكثر من علاقته بأي شيء آخر، وربما يعتقل شخصان في سجن صيدنايا العسكري، أحدهما يستطيع تجاوز الواقع الموجود فيه ويخلق آلية معينة لنفسه فيكتب، والآخر لا يستطيع، لكن بالنسبة لي شخصياً فإن الكتابات التي كتبتها داخل السجن قليلة، وهي عبارة عن مقطوعات أدبية صغيرة، لكنها كانت مؤلمة جداً على المستوى النفسي، وللأسف.. ليست معي لأنها بقيت داخل السجن، فالسجناء حين يخرجون يتعرضون لتفتيش شديد، وبناء على ذلك ممنوع إخراج أي شيء، ويتكرر الأمر ذاته حين يُزارون، وإن استطاع أحدنا تهريب ورقة صغيرة لزوجته فلن يكون فيها أكثر من كلمة "أحبك"، وبضع كلمات أُخر.
* استوقفتني جملتك "السجون التي عشتُ فيها"، فما هي، خصوصاً وأن لبعضها تاريخاً أسود في ذاكرة الشعب السوري؟
ــ لا أدري إن كان لذلك الأمر أهمية، ولكن على العموم انتقلت بين سجن المزة العسكري، وسجن تدمر العسكري، وسجن صيدنايا العسكري، والسجن البولوني (البالوني)، والسجن المركزي، وسجون المخابرات، وكان لكل سجن ظروفه، فعلى سبيل المثال الحلم الرئيسي للسجين في سجن تدمر العسكري أن يخرج منه حياً، لأنه معرض للموت في كل لحظة، سواء بضربة شرطي، أو بمرض معدٍ، وهناك ألف سبب وسبب للموت فيه، وهو الذي يعتبر أسوأ سجن ليس في سوريا فقط إنما لا يوازيه بتصوري إلا المعتقلات النازية، لا بل قد يتفوق عليها.
غلاف النسخة العربية من القوقعة
* أطلق سراحك نهاية سنة 1994، فهل حوكمت خلال هذه الفترة؟
ــ نعم.. وحُركت الدعوى ضدي من قبل الدولة بعد مضي أكثر من 10 سنوات على جودي في السجن، واستمرت أكثر من عامين، ثم حكمتني محكمة الدولة العليا، وحيث أن القانون ينص على أنه إذا لم تحرك الدعوى العامة خلال 10 سنوات فتسقط "الجريمة" بالتقادم، وهكذا شملني قانون التقادم، وقالوا لي: "لا تؤاخذنا".
* ما الذي انتابك حينها؟
ــ شعور بالخوف من الخارج، ففي ظل نظام حافظ الأسد، والقسم الأكبر من نظام بشار الأسد فإن أكثر مكان يشعر فيه الإنسان السوري بالأمان هو داخل السجن، أما خارجه فهو خاضع للمراقبة والمتابعة والمعاناة النفسية والمضايقة والاعتقال والتعذيب.
* هل صدمك الواقع خارج السجن؟
ــ جداً، وعلى أكثر من صعيد، وكانت كل الصدمات محبطة، فمن تركته وهو في سن الـ5، أصبح عمره 20، كما لم أعرف أقربائي وأولاد أخوتي وأخواتي، لأن الوحيدين الذين كانوا يزوروني هم زوجتي وابنتي وأخي، ولكن كانت أكبر صدمة لي حين تلمست بعد خروجي بشهر أو اثنين مدى التخريب الذي أصاب داخل الإنسان السوري، كان مخرباً إلى درجة لا يمكن إصلاحه، وبالتالي لا يمكن إصلاح المجتمع أو ترميمه، حينها قلت: إذا أردنا للمجتمع السوري أن يعود مجتمعاً أقرب للسوي فقد نحتاج إلى جيلين أو ثلاثة، وفي ظل حكم نظيف ونقيض لحكم حافظ الأسد يعمل على إعادة بناء إنسان سوري نظيف وأخلاقي ومتوازن نفسياً.
* خلال فترة سجنك عاشت المنطقة عدة أحداث مهمة داخلياً ولبنانياً ومصرياً، كيف قرأت كل ذلك حين خرجت إليه؟
ــ كنت وسواي نعرف ما حدث ونحن في السجن، فأحياناً كانت تصلنا جريدة النظام، وأحياناً أخرى كانوا يسمحون براديو ترانزيستور فنستمع إلى أخبار البي بي سي، ومونتي كارلو، لكن أكثرأمر هزني وهو اجتياح إسرائيل للبنان سنة 1981، لأنني ـ قبل السجن ـ ونتيجة علاقتي مع بعض المنظمات الفلسطينية ارتأيت أن يذهب كل المناضلين العرب إلى لبنان لأن المعركة المصيرية ستكون هناك، وكان من المفترض أن أكون هناك لكنني اعتقلت قبيل سفري الى بيروت بأيام قليلة، وبعد عدة أشهر من السجن تابعت أنباء الاجتياح الذي أقلقني كثيراً، خصوصاً وأن إسرائيل وصلت إلى بيروت، الأمر الذي حفر عميقاً في وجداني، لكن للسجن بعض الإيجابيات إن صح التعبير، وهو أنه يعفي الإنسان من المسؤولية الأخلاقية، ومع ذلك يعذب نفسه، أما مصر فلها بحث آخر خصوصاً وأن أغلبية السوريين يحبون المصريين، وهم بالنسبة إليهم " الأخ التوأم"، وكان رأيي منذ 30 عاماً أنه عندما تكون مصر بخير تكون الأمة العربية كلها بخيروعندما تهون مصر يهون العرب جميعاً، وكنت حين أتابع الأخبار أتألم لواقع الشعب المصري، وسيطرة مبارك، ووجود الأجهزة الفاسدة كما هو الواقع في سوريا، وقد بات الشعب العربي من المحيط إلى الخليج يعيش حالة من الانحدار واللامبالاة، وكل هذا يشعرني بالقهر والعذاب والألم.
* نعود إلى العمل الروائي.. متى قررت كتابته؟
ــ كانت التجربة التي عشتها في سجن تدمر مذهلة وصادمة، وتحديداً حينما يتم تعذيب السجناء، حيث كنا نرى أساليباً لم تكن تخطر على بال أحد، وأذكر أنني وصديقي في السجن كنا نراقب بذهول حركات أحد الجلادين، وما يرتسم على وجهه من حقد وانتشاء وسعادة في الساحة أثناء تعذيب السجين، ثم التفت صديقي نحوي وقال: طوال عمرنا ونحن نناضل في سبيل الشعب السوري، فهل هذا الجلاد هو أحد الذين كنا نناضل في سبيلهم؟.. ما أريد قوله أنه كانت هناك حالة كبيرة جداًَ من الألم والقهر والمعاناة والإذلال، حالة تجعلنا نقترب من حد الفصام، ويبدو أن كل ممارسات النظام السوري خارج وداخل السجن هي إذلال الإنسان بكل معنى الكلمة، وتحطيمه من الداخل، وإيصاله إلى حد التفكير بأنه حشرة لا أكثر ولا أقل، هذا الكم من الإذلال الذي تجرعناه على مدى 15 سنة كان لابد أن ينفجر، فانفجر عند بعض الناس بالانتحار، مثل شخصية وسيم في الرواية، وهو شخص حقيقي تماسك 15 سنة داخل السجن، وبعد خروجه بعدة أيام انتحر، ذلك أن انفجاره الداخلي أدى إلى فعل احتجاجي من هذا النوع، ولو كان وسيم شخصية انتحارية لانتحر أيام السجن تحت وطأة التعذيب والمعاناة، كما جنَّ البعض، ومن حسن حظي أن انفجاري كان عن طريق الرواية، حيث حاولت تفريغ ما في داخلي.
* يعني أنك لم تحضر للعمل؟
ــ لا.. لم أحضر له، لكن فجأة وفي لحظة من اللحظات قلت أنه لابد أن أكتب، في البداية حاولت التذكر، ثم وضعت رؤوس أقلام وبدأت الكتابة، ولم أتوقف إلى أن أنتهيت بعد حوالي سنة من كتابة المسودة التي لم أستطع مراجعتها، فأعطيتها لصديقة لتراجعها لغوياً، ولتبدي ملاحظاتها، ومن دون شك فإن تذكر الأحداث كان فعلاً مؤلماً، لكنه في ذات الوقت مريح، إلا أن تذكر الألم ليس فعلاً إرادياً، ولا أخفيك سراً أن كل السجناء الذين أمضوا فترات طويلة في السجن وخرجوا وأنا منهم؛ كانوا عندما يستيقظون من نومهم يشعرون وكأنهم لازالوا داخل السجن الذي بقي ملازماً لهم فترة طويلة من الزمن.
* أثناء كتابة الرواية كانت زوجتك سحر البني (شقيقة الناشطين السياسيين أكرم وأنور البني) إلى جانبك، وهي التي عايشت اعتقالك، وأنجبت أولى بناتك وأنت في السجن، كم أثرت وابنتك على قرارك بتأريخ ما تعرضت له من قهر وظلم؟ وكم شعرت بالمسؤولية بأن تدون لأسرتك ما حدث معك؟
ـ زوجتي رفيقتي، وقد دخلت السجن مثلي، ولهذا نحن معاً خطوة خطوة، لكني فعلاً فكرت بابنتيَّ، فكان الإهداء لهما، ولسواهما ممن ينتمون إلى نفس الجيل، متمنياً ألا يتعرضوا للآلام والعذابات التي تعرضت وزملائي لها، وقد شعرت بالمسؤولية بقول كلمتي لهذا الجيل الذي آمل أن يعيش حياة سوية، لأنني وأبناء جيلي لم نعش حياة سوية، حيث استطاع النظام تشويهها بدرجة كبيرة، ويكذب من يقول أن الإنسان الذي يسجن 15 سنة ثم يخرج دون أن يتغير، السجن لابد أن يؤثر سلباً على هذا الكائن مهماً كان قوياً وجباراً ومتماسكاً ومتوازناً نفسياً.
* أصبح اسمك مرتبطاً بـ "القوقعة"، فهل يزعجك أن تتلخّص فيها؟
ــ لا يزعجني بقدر ما يشكل لي هماً بالنسبة للرواية المقبلة، فقد كانت "القوقعة" صرخة صغيرة ضد العنف الممارس من الإنسان على الإنسان، وعموماً لا أطرح نفسي كاتباً روائياً، بل سجيناً سياسياً فرغت معاناتي في عمل أدبي أخذ شكل الرواية، وقد خطر ببالي العودة إلى حلم الطفولة، فبرز أمامي السؤال عن جدوى ذلك، وفي أغلب الأحيان وبصراحة لا أجد أية جدوى، لكن من الممكن وإذا حظيت بمتسع من الحياة فسوف سيكون هناك مشروع رواية أخرى، ويقال أن الروائي يكتب رواية واحدة، وما تبقى هي تنويعات، وإذا صار وقيض لي كتابة تلك الرواية فهي التي أريد أن يربط اسمي بها.
* قيل أنك رفضت أن تُدخل "القوقعة" ضمن أدب السجون..
ـ لم أناقش هذا الأمر، وكذلك كنت في السابق أبتعد وأتهرب من دخول أي حديث عنها حين أتواجد في جلسات، وهذه هي المرة الأولى التي أناقش فيها الرواية، وبالتالي أنا بعيد عن هم تصنيف "القوقعة"، لأنها عمل كتبته وبات جزءاً من التاريخ أو من الأدب أو من أي شيء يمكنك تسميته.
* لكن هذا العمل يحملك مسؤولية أمام القراء..
ـ يجب أن نفصل بين العمل الروائي وبين الروائي نفسه، وكثيراً ما أقرأ روايات من دون التوقف طويلاً عند اسم الكاتب، فقد يكون هناك روائي من أسوأ البشر ويكتب رواية في غاية الإبداع، حتى على مستوى الرأي علينا ألا نربط بين من يطرحه وبين شخصه وذاته.
* هل سيكون عملك الثاني مفصولاً عن القوقعة؟
ــ في قسم كبير منه نعم، لكنني في النهاية أنا ابن الواقع، فكيف أعيش في ظل نظام حافظ الأسد (30 سنة)، وبشار الأسد (11 سنة) المليء بالعذاب وبالسجون وبالذل وبالقهر ولا أكتب عنه، هذا عمري..
* انطلاقاً من تجربتك الذاتية هل تستهويك قراءة الأعمال التي تتحدث عن السجون؟
ـ عموماً أنا قارئ نهم، وتستهويني جميع الأعمال، لكن عندما يصبح بين يدي عملاً عن السجون يشدني أكثر قليلاً من غيره للمقارنة والمقاربة، لكنني وبعد كل تجاربي صرت أكره العنف جداً، سواء كان لفظياً أم جسدياً، أو عنف إنسان ضد حيوان ، أو إنسان ضد إنسان، أوعنف دولة ضد شعب، وبالتالي أي شيء يدين العنف أو يناهضه أكون معه، وموقفي عاطفي من العنف الذي أكرهه جداً.
ــ نعم.. وحُركت الدعوى ضدي من قبل الدولة بعد مضي أكثر من 10 سنوات على جودي في السجن، واستمرت أكثر من عامين، ثم حكمتني محكمة الدولة العليا، وحيث أن القانون ينص على أنه إذا لم تحرك الدعوى العامة خلال 10 سنوات فتسقط "الجريمة" بالتقادم، وهكذا شملني قانون التقادم، وقالوا لي: "لا تؤاخذنا".
* ما الذي انتابك حينها؟
ــ شعور بالخوف من الخارج، ففي ظل نظام حافظ الأسد، والقسم الأكبر من نظام بشار الأسد فإن أكثر مكان يشعر فيه الإنسان السوري بالأمان هو داخل السجن، أما خارجه فهو خاضع للمراقبة والمتابعة والمعاناة النفسية والمضايقة والاعتقال والتعذيب.
* هل صدمك الواقع خارج السجن؟
ــ جداً، وعلى أكثر من صعيد، وكانت كل الصدمات محبطة، فمن تركته وهو في سن الـ5، أصبح عمره 20، كما لم أعرف أقربائي وأولاد أخوتي وأخواتي، لأن الوحيدين الذين كانوا يزوروني هم زوجتي وابنتي وأخي، ولكن كانت أكبر صدمة لي حين تلمست بعد خروجي بشهر أو اثنين مدى التخريب الذي أصاب داخل الإنسان السوري، كان مخرباً إلى درجة لا يمكن إصلاحه، وبالتالي لا يمكن إصلاح المجتمع أو ترميمه، حينها قلت: إذا أردنا للمجتمع السوري أن يعود مجتمعاً أقرب للسوي فقد نحتاج إلى جيلين أو ثلاثة، وفي ظل حكم نظيف ونقيض لحكم حافظ الأسد يعمل على إعادة بناء إنسان سوري نظيف وأخلاقي ومتوازن نفسياً.
* خلال فترة سجنك عاشت المنطقة عدة أحداث مهمة داخلياً ولبنانياً ومصرياً، كيف قرأت كل ذلك حين خرجت إليه؟
ــ كنت وسواي نعرف ما حدث ونحن في السجن، فأحياناً كانت تصلنا جريدة النظام، وأحياناً أخرى كانوا يسمحون براديو ترانزيستور فنستمع إلى أخبار البي بي سي، ومونتي كارلو، لكن أكثرأمر هزني وهو اجتياح إسرائيل للبنان سنة 1981، لأنني ـ قبل السجن ـ ونتيجة علاقتي مع بعض المنظمات الفلسطينية ارتأيت أن يذهب كل المناضلين العرب إلى لبنان لأن المعركة المصيرية ستكون هناك، وكان من المفترض أن أكون هناك لكنني اعتقلت قبيل سفري الى بيروت بأيام قليلة، وبعد عدة أشهر من السجن تابعت أنباء الاجتياح الذي أقلقني كثيراً، خصوصاً وأن إسرائيل وصلت إلى بيروت، الأمر الذي حفر عميقاً في وجداني، لكن للسجن بعض الإيجابيات إن صح التعبير، وهو أنه يعفي الإنسان من المسؤولية الأخلاقية، ومع ذلك يعذب نفسه، أما مصر فلها بحث آخر خصوصاً وأن أغلبية السوريين يحبون المصريين، وهم بالنسبة إليهم " الأخ التوأم"، وكان رأيي منذ 30 عاماً أنه عندما تكون مصر بخير تكون الأمة العربية كلها بخيروعندما تهون مصر يهون العرب جميعاً، وكنت حين أتابع الأخبار أتألم لواقع الشعب المصري، وسيطرة مبارك، ووجود الأجهزة الفاسدة كما هو الواقع في سوريا، وقد بات الشعب العربي من المحيط إلى الخليج يعيش حالة من الانحدار واللامبالاة، وكل هذا يشعرني بالقهر والعذاب والألم.
* نعود إلى العمل الروائي.. متى قررت كتابته؟
ــ كانت التجربة التي عشتها في سجن تدمر مذهلة وصادمة، وتحديداً حينما يتم تعذيب السجناء، حيث كنا نرى أساليباً لم تكن تخطر على بال أحد، وأذكر أنني وصديقي في السجن كنا نراقب بذهول حركات أحد الجلادين، وما يرتسم على وجهه من حقد وانتشاء وسعادة في الساحة أثناء تعذيب السجين، ثم التفت صديقي نحوي وقال: طوال عمرنا ونحن نناضل في سبيل الشعب السوري، فهل هذا الجلاد هو أحد الذين كنا نناضل في سبيلهم؟.. ما أريد قوله أنه كانت هناك حالة كبيرة جداًَ من الألم والقهر والمعاناة والإذلال، حالة تجعلنا نقترب من حد الفصام، ويبدو أن كل ممارسات النظام السوري خارج وداخل السجن هي إذلال الإنسان بكل معنى الكلمة، وتحطيمه من الداخل، وإيصاله إلى حد التفكير بأنه حشرة لا أكثر ولا أقل، هذا الكم من الإذلال الذي تجرعناه على مدى 15 سنة كان لابد أن ينفجر، فانفجر عند بعض الناس بالانتحار، مثل شخصية وسيم في الرواية، وهو شخص حقيقي تماسك 15 سنة داخل السجن، وبعد خروجه بعدة أيام انتحر، ذلك أن انفجاره الداخلي أدى إلى فعل احتجاجي من هذا النوع، ولو كان وسيم شخصية انتحارية لانتحر أيام السجن تحت وطأة التعذيب والمعاناة، كما جنَّ البعض، ومن حسن حظي أن انفجاري كان عن طريق الرواية، حيث حاولت تفريغ ما في داخلي.
* يعني أنك لم تحضر للعمل؟
ــ لا.. لم أحضر له، لكن فجأة وفي لحظة من اللحظات قلت أنه لابد أن أكتب، في البداية حاولت التذكر، ثم وضعت رؤوس أقلام وبدأت الكتابة، ولم أتوقف إلى أن أنتهيت بعد حوالي سنة من كتابة المسودة التي لم أستطع مراجعتها، فأعطيتها لصديقة لتراجعها لغوياً، ولتبدي ملاحظاتها، ومن دون شك فإن تذكر الأحداث كان فعلاً مؤلماً، لكنه في ذات الوقت مريح، إلا أن تذكر الألم ليس فعلاً إرادياً، ولا أخفيك سراً أن كل السجناء الذين أمضوا فترات طويلة في السجن وخرجوا وأنا منهم؛ كانوا عندما يستيقظون من نومهم يشعرون وكأنهم لازالوا داخل السجن الذي بقي ملازماً لهم فترة طويلة من الزمن.
* أثناء كتابة الرواية كانت زوجتك سحر البني (شقيقة الناشطين السياسيين أكرم وأنور البني) إلى جانبك، وهي التي عايشت اعتقالك، وأنجبت أولى بناتك وأنت في السجن، كم أثرت وابنتك على قرارك بتأريخ ما تعرضت له من قهر وظلم؟ وكم شعرت بالمسؤولية بأن تدون لأسرتك ما حدث معك؟
ـ زوجتي رفيقتي، وقد دخلت السجن مثلي، ولهذا نحن معاً خطوة خطوة، لكني فعلاً فكرت بابنتيَّ، فكان الإهداء لهما، ولسواهما ممن ينتمون إلى نفس الجيل، متمنياً ألا يتعرضوا للآلام والعذابات التي تعرضت وزملائي لها، وقد شعرت بالمسؤولية بقول كلمتي لهذا الجيل الذي آمل أن يعيش حياة سوية، لأنني وأبناء جيلي لم نعش حياة سوية، حيث استطاع النظام تشويهها بدرجة كبيرة، ويكذب من يقول أن الإنسان الذي يسجن 15 سنة ثم يخرج دون أن يتغير، السجن لابد أن يؤثر سلباً على هذا الكائن مهماً كان قوياً وجباراً ومتماسكاً ومتوازناً نفسياً.
* أصبح اسمك مرتبطاً بـ "القوقعة"، فهل يزعجك أن تتلخّص فيها؟
ــ لا يزعجني بقدر ما يشكل لي هماً بالنسبة للرواية المقبلة، فقد كانت "القوقعة" صرخة صغيرة ضد العنف الممارس من الإنسان على الإنسان، وعموماً لا أطرح نفسي كاتباً روائياً، بل سجيناً سياسياً فرغت معاناتي في عمل أدبي أخذ شكل الرواية، وقد خطر ببالي العودة إلى حلم الطفولة، فبرز أمامي السؤال عن جدوى ذلك، وفي أغلب الأحيان وبصراحة لا أجد أية جدوى، لكن من الممكن وإذا حظيت بمتسع من الحياة فسوف سيكون هناك مشروع رواية أخرى، ويقال أن الروائي يكتب رواية واحدة، وما تبقى هي تنويعات، وإذا صار وقيض لي كتابة تلك الرواية فهي التي أريد أن يربط اسمي بها.
* قيل أنك رفضت أن تُدخل "القوقعة" ضمن أدب السجون..
ـ لم أناقش هذا الأمر، وكذلك كنت في السابق أبتعد وأتهرب من دخول أي حديث عنها حين أتواجد في جلسات، وهذه هي المرة الأولى التي أناقش فيها الرواية، وبالتالي أنا بعيد عن هم تصنيف "القوقعة"، لأنها عمل كتبته وبات جزءاً من التاريخ أو من الأدب أو من أي شيء يمكنك تسميته.
* لكن هذا العمل يحملك مسؤولية أمام القراء..
ـ يجب أن نفصل بين العمل الروائي وبين الروائي نفسه، وكثيراً ما أقرأ روايات من دون التوقف طويلاً عند اسم الكاتب، فقد يكون هناك روائي من أسوأ البشر ويكتب رواية في غاية الإبداع، حتى على مستوى الرأي علينا ألا نربط بين من يطرحه وبين شخصه وذاته.
* هل سيكون عملك الثاني مفصولاً عن القوقعة؟
ــ في قسم كبير منه نعم، لكنني في النهاية أنا ابن الواقع، فكيف أعيش في ظل نظام حافظ الأسد (30 سنة)، وبشار الأسد (11 سنة) المليء بالعذاب وبالسجون وبالذل وبالقهر ولا أكتب عنه، هذا عمري..
* انطلاقاً من تجربتك الذاتية هل تستهويك قراءة الأعمال التي تتحدث عن السجون؟
ـ عموماً أنا قارئ نهم، وتستهويني جميع الأعمال، لكن عندما يصبح بين يدي عملاً عن السجون يشدني أكثر قليلاً من غيره للمقارنة والمقاربة، لكنني وبعد كل تجاربي صرت أكره العنف جداً، سواء كان لفظياً أم جسدياً، أو عنف إنسان ضد حيوان ، أو إنسان ضد إنسان، أوعنف دولة ضد شعب، وبالتالي أي شيء يدين العنف أو يناهضه أكون معه، وموقفي عاطفي من العنف الذي أكرهه جداً.
مصطفى خليفة ...ما زلنا في الفصل الاول من الثورة
* متى غادرت سوريا؟ ولماذا؟
ـ غادرتها في 2006، وكنت قبل ذلك ممنوعاً من السفر، وناضلت وحاولت أحياناً اللجوء إلى أمور لا أستسيغها، لكني في النهاية حصلت على إذن السماح بالسفر لمرة واحدة، وهكذا خرجت ولم أعد، لأنني كنت قد وصلت هناك إلى مرحلة لم أعد أستطع التأقلم أكثر مع الوضع، وكذلك قسم كبير من رفاقي خرجوا، لكن هناك من بقي لظروف شخصية أو عائلية أو لم تتوافر لديهم الفرصة أو الإمكانية، ولكن لدى الجميع تفكير واحد، وهو أنهم لا يستطيعون هضم واستساغة كل ما يجري في المجتمع والدولة.
* إلى أي درجة نستطيع القول أن الإغتراب عذبك نفسياً؟
ـ قبل أن آتي إلى الإمارات توافرت لي فرصة الخروج إلى أوروبا، إلا أنني رفضت وفضلت المجيء إلى الإمارات، فالسوريون سواء كانوا ماركسيين أم قوميين أم إسلاميين أم حياديين فطابعهم ميال للقومية، ومشاعرنا تلك كبيرة، ونشعر بأن الوطن العربي واحد، وبأنه وطننا، ولهذا لم أشعر بالغربة هنا، إنما بالتماهي والاندماج والالفة مع المكان في الامارات هذا البلد الذي أحببت، وندمت لأنني لم آت إليه قبل ذلك، فهو جميل ورائع ويمنحني الاستقرار كثيراً، لدرجة أنني طلبت من زوجتي إن مت هنا أن تدفنني في هذه الأرض، ولا تعيدني إلى سوريا.
* سوريا الآن تعيش وضعاً استثنائياً على مستوى تحرك قسم لا يستهان به من الشارع السوري بكل فئاته، فهل جاء هذا التحرك في وقته، وكيف تراه؟
ـ لا لم يأت في وقته، كنت أتمنى ـ كأمنية وليس كقوانين وحتميات تاريخية ـ أن يكون الحراك في 17 تشرين، أي في اليوم الثاني لانقلاب حافظ الأسد الذي تم في 16 تشرين الأول 1970، ولوحدث ذلك لتجنب الشعب السوري آلام 41 سنة، ولتجنب التدمير الذي طال الحياة، والبنية الإنسانية، ولكان مجتمعنا من أفضل المجتمعات على مستوى العالم، وبعدما يئسنا من تغير الوضع فكر الكثير من المثقفين في إعادة دراسة مفهوم الشعب، وهل هناك شعب، وهل هو صاحب القرار، وهل.. وهل.. غير أن التحرك الذي بدأ في تونس فاجأ كل الناس، وأعاد إلينا الأمل، واليوم ما يحدث في سوريا هو ثورة شعبية تضم كل أطياف المجتمع وفئاته العمرية، يضم الشباب والكهول والأطفال، الرجال والنساء، الطوائف الدينية والمذهبية والقومية، ثورة شعبية أعادت الأمل لكل السوريين داخل وخارج سوريا.
* هل هذا الحراك الشعبي بحاجة إلى تنظيم؟
ـ أنا بعيد عن الحدث، لكن لا أشك بأن الناس يملكون قدرة على ابتكار وسائل التنظيم، فهذه الحركة الشعبية تخلق وسائلها وقياداتها أيضاً من خلال صيرورة الحركة، وأتمنى على المعارضة السياسية التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب ألا تتدخل بالتنظيم أو بالتنظير، فالناس ينظمون أنفسهم، وبالنسبة لي شخصياً لست قلقاً على التنظيم، ولا على القيادات البديلة، ما يهمني هوشيئ واحد فقط، "ذهاب هذا النظام"، ومن سيكون خلفاً له سيكون أفضل منه مهماً كان سيئاً، فمنذ أيام معاوية بن أبي سفيان وحتى الآن لم ولن يمر على سوريا نظاماً أسوأ من نظام البعث، وحاكم أسوأ من حافظ الأسد، كما لم يُقتل ويُسجن ويُهجَّر من الشعب السوري نفس القدر الذي قتله وسجنه وهجّره حافظ الأسد، فخلال 30 سنة ووفق التقارير قتل بين 100 ألف و150 ألف، سواء عبر المجازر أو في السجون، ولو اعتبرنا أنه قتل 100 ألف فقط فهذا معناه أنه كان هناك يومياً على مائدة إفطارحافظ الأسد جماجم 10 شباب سوريين، وإلى جانب ذلك كله فقد شوّه شعب سوريا بأكمله، بما فيها من طليعة ومثقفين، حتى من ناوأه وعاداه تشوّه بفعله.
* أين النخب السياسية من هذا الحراك؟
ـ شخصياً لا أتمنى أن تتدخل فيه، لأنها الوجه الثاني للنظام، فالحركة هي حركة شباب عفوية، فلماذا لا نترك الأمور تمشي كما هي عليه إلى أن نتخلص من النظام، ومن ثم بإمكان كل واحد أن يدلو بدلوه، مهمة النخب الرئيسة والأساسية، هي دعم الحراك الشعبي حتى ينجح، ومن دون التأثير فيه أو تشويهه.
* بدأ ربيع الثورات العربية بحوادث صغيرة، ففي تونس صفعت شرطية محمد البوعزيزي صاحب عربة الخضار، وفي مصر قتل الشاب خالد سعيد على أيدي رجال الشرطة، وفي سوريا تم سجن وتعذيب مجموعة من الأطفال لأنهم كتبوا على جدار المدرسة "الشعب يريد إسقاط النظام"، ما دلالات كل هذا؟
ـ ببساطة وصلت المجتمعات العربية إلى درجة لا يمكن تصورها من الاحتقان، وكانت تحتاج إلى أبسط الأسباب للانفجار، والنظام السوري بقدر ما يبدو قوياً وصلباً ومتماسكاً وجباراً من الخارج، إلا أنه هش من الداخل وإلى أبعد درجات الهشاشة، وضعيف إلى أبعد درجات الضعف، وبالتالي سيصل الحراك الشعبي في سوريا إلى مرحلة الذروة التي تتمثل بانهيار النظام، وسيكون انهياره صاعقاً، ولن يحتاج إلى زمن طويل .هكذا تنهار كل الأنظمة اليكتاتورية والاستبدادية.
* لكن هناك من يقول أن النظام سقط منذ البداية من خلال فبركة الأكاذيب المختلفة والمتنوعة؟
ـ ربما سقط بالمعنى النفسي والأخلاقي والشرعية الشعبية أيضاً، لكننا نريد سقوطاً مادياً، بحيث لا تكون هناك مؤسسة الرئاسة الحالية، ولا الأجهزة الأمنية، ولا الحرس الجمهوري، وآمل أن تعود سوريا بلداً حراً ديموقراطياً، ويكون الشعب كله على قدم المساواة، وأن يعيش السوري في بلده وهو ليس خائفاً وذليلاً، هذه هي سوريا التي نريد.
* أليس لإسقاط تماثيل حافظ الأسد، وحرق أو تمزيق صوره وصور ابنه دلالة؟
ـ قد يكون لهذا دلالة رمزية، لكني لست محكوماً بالأحجار التي تشكّل منها تمثال حافظ أسد، أو القماش الذي رسمت عليه صورة بشار الأسد، إنما أحكم على المادة الموجودة على الأرض، وهي الدولة الأمنية التي يجب أن تزول من سوريا وإلى الأبد.
* بعض الأصوات تعترض على انطلاق المظاهرات من المساجد والجوامع، ما موقفك من هذا؟
ـ لا يعنيني المكان الذي تنطلق منه المظاهرات، حتى وإن نزل المتظاهرون بالباراشوت، أو من المريخ، ما يعنيني هو قيام المظاهرات التي تعبّر عن الشارع السوري، وبسبب هذه الانتفاضة أو الثورة الموجودة في سوريا هناك إعادة صياغة للهوية الوطنية السورية، تلك الثورة هي من يعيدهذه الصياغة.
* يطلق المتظاهرون أسماءً على أيام الجمعة، فهل من دلالات لذلك؟
ـ أخذ الشباب السوريون هذا التقليد من ثورة مصر، وبالطبع له دلالاته المهمة، والشباب وحدهم الذين يقررن وتيرة عملهم حسب إمكاناتهم وظروفهم، متمنياً أن يؤدي حراكهم هذا ـ سواء كان كل أسبوع أو كل يوم أو كل ساعة ـ إلى إزاحة الديكتاتورية، ثم إن ملابسات العمل داخل الساحة السورية ليست سهلة، وقد قال أحد الكتاب عن أول تظاهرة "هؤلاء مجموعة من الانتحاريين" سيقضى عليهم وينتهي الأمر، لكن مع الأيام ثبت أنهم قادرون على الاستمرار.
* من موقعك أولاً ككاتب ومراقب، ومن خلال تجربتك مع النظام السوري، ماذا رأيت في الخطاب الأول للرئيس بشار الأسد؟
ـ سئلت عن ذلك من قبل، وقد استشهدت بأحد شباب الفيس بوك الذي كتب على صفحته تعليقاً على ذلك فقال: "هناك أحد احتمالين، إما أن يكون كلام الرئيس فارغاً، أو أن يكون كلاماً مليئاً بالكلام الفارغ"، وأنا تبنيت وجهة نظره، لكن أضيف أمراً، وهو أن بشار الأسد يحمل قدراً كبيراً من الاحتقار للشعب السوري، وقد يكون هذا بسبب نشأته، لأن والده كان يعلمه وإخوته كيف يحتقرون الناس ويذلونهم، والاحتقار عندهم طبع، ومرة سمعت شخصين في المستشفى كانا يتحدثان عن عائلة الرئيس، وأثارا موضوع الاحتقار، فقال أحدهما محاولاً إثبات أن بشار أفضل من ماهر: "صحيح إنو بشار بيحتقر الناس، بس ماهر بيحتقرن وبيكرهن"، إن ما لفت انتباهي في الخطاب انعدام اللباقة، ففي الوقت الذي كان فيه شهداء درعا في الشوارع، ودماءهم لم تجف، كان هو ممتلئاً سعادة وفرحاً وسروراً بالتصفيق الذي صدر عن أعضاء مجلس الشعب، وكنت أتمنى أن يظهر قليلاً من اللياقة واللباقة الاجتماعية، وأن يأخذ موقف رجل دولة مسؤول ويظهر الحزن، سيما وأننا في سوريا تربينا على مراعاة مشاعر بعضنا، وخصوصاً في حضرة الموت الذي له هيبته واحترامه.
* وفي أي موقف ظهر مجلس الشعب؟
ـ سأختصر بحكاية، مرة كنت عند أحد مشايخ البدو في البادية السورية وكنا ننتناقش في السياسة السورية بعد أن سألته لماذا لايرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب، وبالصدفة مر راعٍ وأمامه قطيع غنم يهشه، فقال لي بلهجته البدوية: "تشوف هذا الراعي وهذي الأغنام"، أجبته: نعم، قال: " ان رقيب في المخابرات يقدر ياخذ عصا معه لمجلس الشعب، ويسوق بالعصا أعضاء المجلس كلهم بعدين يروح مجلس الورزا ويطالع كل الوزراء، ويروح القصر العدلي يطالع كل القضاة ويخرّجهم ويسوق الجميع مثل ما يسوق هذا الراعي الغنم"،هذه حال السلطات الثلاث لدينا . ما أريد الوصول إليه أن هؤلاء لن يغيروا ولن يبدلوا حتى لو تغيروا.
* طلب الرئيس من الحكومة عمل أقصى ما تستطيع للإصلاح بعد أن قدم مجموعة من المراسيم، برأيك أين كانت تصب كلمته تلك؟
ـ عملياً استطاع النظام أن يحقق نجاحاً تكتيكياً من خلال تصويره أن الصراع كله يتمحور حول الغاء حالة الطوارئ، وأنه إذا قام بإلغاء هذه الحالة فإنه يكون قد لبى مطالب المتظاهرين، وأكثر من وقع في هذا الفخ هي وسائل الاعلام، وكرجل قانون وسجين أقول أن إلغاء حالة الطوارئ لا معنى لها في سوريا لأنها ليست مشكلتنا، فهي موجودة منذ سنة 1963، وبقيت الدولة تتقيد بها حتى سنة 1970، ولاحقاً لم يعد لها معنى، لأن ما كان يجري في سوريا يفوق كثيرا كل قوانين الطوارئ مجتمعة في العالم، لكن الطلبات الأساسية أهم من ذلك بكثير، وأمام الثورة في سوريا"بعد انصارها " عملاً هائلاً جداً قد يمتد لسنوات لتكون ديموقراطية، وقبل ذلك يجب أن تمتد مطالب الثورة إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإلغاء الدستور وكتابة دستور جديد لسوريا ديموقراطية حرة، وعمل نظام انتخابات جديد وعصري، وإلغاء كل القوانين والمراسيم التي أطلقت يد الأجهزة الأمنية في المجتمع السوري، وإلغاء أمن الدولة، وتحجيم الأمن العسكري بما يتناسب مع متطلبات وحاجات الجيش، وكف يده عن التدخل في الشؤون المدنية، وحل كل الأجهزة الأمنية بما فيها الأمن السياسي ، هذه هي الخطوات الأولية السريعة، وما تبقى يتطلب عملاً هائلاً على المستويين التشريعي والعملي كي نستطيع وضع سوريا على طريق الديموقراطية.
* تحدثت عن إعادة صياغة دستور جديد، فهل يوجد مخالفات في الدستور الحالي؟
ـ الدستور الموجود في سوريا الآن هو دستور "حافظي" فُصِّل على قياس حافظ الأسد، ولهذا إما أن يُلغى لأنه لا يصلح لدولة تريد الديموقراطية، وإما أن يعاد الدستور الذي كان موجوداً في بداية الستينيات أو ما قبلها، وإما أن يوضع دستور جديد، ولو تم وضع دستور جديد لا بد من تشيكل لجنة لإعداده، تكون مكونة من كبار رجال القانون والفقهاء والمستشارين القانونيين، مع ضرورة الاطلاع على دساتير دول أخرى، كما يجب أن يكون هناك توزيعاً متوازناً للسلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وبقية مسؤولي الدولة، بحيث لا يكون رئيس الدول نصف إله أو ثلاثة أرباع اله، وكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيده كما الحال في الدستور السوري الحالي، مع ضرورة ضمان التنفيذ الصارم لمبدأ فصل السلطات في الدستور الجديد.
* أمام الجرائم بحق المتظاهرين السوريين هل بالإمكان القول أن الجهاز الأمني يمارس صلاحيات الرئيس؟
ـ النظام السوري غير شفاف، ولا يستطيع أي أحد معرفة ما الذي يدور في كواليسه، ففي سنة 2000 كانت هناك مجموعة من الجنرالات وكبار ضباط الجيش من عهد حافظ الأسد، ولتجنب حرب تنافسية بينهم جاء بشار كمرشح تسوية بصفته الأضعف، لكن الكرسي الذي فرغ بموت الأب كان كبيراً جداً على الابن، وبالتالي صار هناك تمدد لمراكز القوى الموجودة في السلطة على حساب سلطة الرئيس، ولهذا من الطبيعي أن يكون لهذه المراكز دورها في صياغة القرار السياسي في سوريا كونها تشعر بأنها هي التي جاءت ببشار الأسد، ومن ناحية ثانية وهي الأهم أنها تدافع عن مصالحها، فهذه المراكز التي تتوزع بين الأمن والحرس الجمهوري تمتلك قوة حقيقية وهي جزء من الفساد، لا بل هي الفساد بعينه، وبالتالي فإن أي محاولة إصلاحية قد تضرب مصالحها ، ولهذا إذا أراد الرئيس أن يقوم بعملية إصلاحية أو امتلك قليلاً من بعد النظر للمحافظة على النظام ككل عليه تقديم الكثير من التنازلات، لكنه سيجد مقاومة فظيعة وكبيرة من قبل تلك المراكز التي تسيطر على الأجهزة الأمنية.
* وماذا عن الإعلام الذي يفترض أن يكون السلطة الرابعة؟
ـ لا يوجد عندنا سلطة رابعة، طالما أن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية غير موجودة، وسلطة الحكومة غير موجودة، فقط هناك سلطة مؤسسة الرئاسة التي قد يديرها بشار أو المجلس العائلي المصغر بمعاونة ضباط مراكز القوى، تلك السلطة التي تختزل كل السلطات، من السلطة الأولى وحتى السلطة السابعة.
* لا يملك الشعب السوري الثائر قدرة على نقل انتفاضته وثورته بسبب الحصار المفروض، وبناء على ذلك هل بإمكان العالم أن يتفاعل مع ثورته، ومع المشاهد المصورة من خلال أجهزة الموبايل، ثم بثها عن طريق مواقع مثل فيس بوك وتويتر؟
ـ كان التفاعل خلال الأيام التي مضت لابأس به، وكانت هناك تغطية من قبل الكثير من المحطات لما يجري في سوريا، فأهمية الموضوع السوري يفرض على المحطات نقله حتى وإن كان مصدر الصور اليوتيوب أو من الموبايل، وأعتقد أن التغطية الإعلامية الغربية والعربية لابأس بها ضمن الظروف المتاحة، قد يكون هناك من الأحداث ما لم نسمع به بسبب التعتيم الإعلامي، ومع ذلك ما يزال الموضوع السوري حاضرا وموجودا في كل نشرات الأخبار في أهم المحطات الفضائية والإذاعية، وكله بفضل الشباب، وليس بفضل الإعلام السوري.
ثم إن نقل الأحداث يبين الفرق بين أحداث حماه والأحداث التي نعيشها الآن، ففي حماه تم تدمير مدينة بأكملها قتل فيها حوالي 40 ألف إنسان ومن دون أن يوثق ذلك بصورة فوتوغرافية واحدة، واليوم الثورة فيسبوكية،ثورة الشباب التي أتابعها لأنني مؤمن بها، وبما أنه لا يجب على ديناصورات السياسية أن يتدخلوا في ثورة الشباب، لذلك علي ألا أتدخل كي لا أصير ديناصوراً، لكني لا أتوانى عن تقديم أي دعم للشباب مفجري الثورة، وأقول دائماً أن جيلهم أفضل من جيلنا، وأكثر عملية .
* إلى ماذا يحتاج هؤلاء الشباب؟
ـ فقط لدعاء الأمهات، فهم يملكون كل شيء، هم لم يستعينوا بأحد، ولم يأخذوا توجيهات من أحد، ولم ينظّر عليهم أحد، منطلقين من دافع ذاتي، ومن الإحساس بالحرية الداخلية، وهذا ما دفعهم للنزول إلى الشارع ولبس الكفن.
* في كل ثورة مواقف مضحكة، ولكل ثورة تعليقات وشعارات وأغنيات، فهل ترى أن ملامح تلك الأمور بدأت تتضح الثورة السورية ؟
ـ الثورة السورية مؤلمة بسبب قتل شبابنا وأطفالنا، ومن ناحية أخرى فيها العديد من الصور المشرقة والرائعة، وقد لفت انتباهي التواجد النسائي الضخم في حمص بساحة الساعة، ولهفة الشباب على بعضهم حين يصاب أحدهم، حيث يعرضون أنفسهم للخطر لإسعافه، وشهود العيان الذين ينقلون الأخبار وهم يعرفون أن الأمن السوري قادر على تتبع المكالمات، لكنهم يخاطرون بكل شيء من أجل نقل الخبر، وأي واحد منهم أفضل من وزير الإعلام نفسه، فهو لا يكذب ولا يحابي ويتكلم بموضوعية وبهدوء، ومن هنا كسب شهود العيان مصداقية عند المحطات، وأعجبتني وأبكتني أغنية سميح شقير، كل ما ذكرته وسواه صور مشرقة ستدون ويكتب عنها، وهي تعيد تشكيل صورة الانسان السوري.
* في تلك الأحداث هل حول الشباب بعض الشخصيات السورية المناصرة للثورة إلى أيقونات؟
ـ هناك شخصيات لا يمكن إلا أن نقف لها بإجلال واحترام " الأستاذ هيثم المالح، وجورج صبرة، ود. عارف دليلة، فايز سارة، وغياث عيون السود" وهناك أسماء كثيرة دفعت الثمن، وعادت للسجن مرة أخرى، فهؤلاء كلهم محترمون، ولديهم قدرة عالية على التضحية، والناس يصدقوهم، لكن لماذا الأيقونات، فإذا كان عندي أو عند سواي رأياً صائباً فهذا لا يعني أنهم يجب أن يكونوا أيقونات، فالجميع يؤدون واجبهم.
* هل توجد ثورة مضادة الكترونية؟
ـ من الطبيعي وجودها، وهناك مصدرين للثورة المضادة، مصدر يتمثل بقسم المعلومات في أجهزة المخابرات، والذي جند آلاف العناصر للتشويش على شباب الفيس بوك، ومصدرآخر يتمثل بالشباب الذين لا علاقة لهم بالمخابرات لكن لهم رأيهم، ويعتقدون أن النظام جيد، ونحن نحترم رأيهم وبحرية إبدائه، ويجب أن نعتاد على جو الديموقراطية، وقد تكون هناك شريحة اجتماعية محصورة بمنطقة أو بمصلحة معينة لكننا نحترمهم، المهم ألا يكون هناك لغة تخوين أو إسفاف في الحديث.
* ابنتاك من الجيل الجديد، كيف تتابعان الأحداث؟
ـ كما هو هذا الجيل، فهما تتفاعلان مع ما يجري، وأعتقد أن هذا الجيل أفضل من جيلنا، صحيح قد ينقصه القليل من الرومانسية، لكنه عملي، ويذهب إلى هدفه بخط مستقيم، ويمتلك من الشجاعة الكثير، وحسه الوطني عالٍ فاجأ الجميع به، كما أن إيمانه بالوطن متجذر وعميق وكبير، ولديه قدرة على التضحية والفداء.
* أخيراً.. هل تحطمت جمهورية الخوف؟
ـ نعم، قد لا تكون تحطمت 100% لكنها تحطمت بنسبة معقولة، ونحن في مرحلة إتمام التحطيم، ثم تأتي مرحلة البناء، ونحن لا زلنا في الجزء الأول من الفصل الأول من الثورة، أي تحطيم جدران الرعب والخوف والصمت.
ـ غادرتها في 2006، وكنت قبل ذلك ممنوعاً من السفر، وناضلت وحاولت أحياناً اللجوء إلى أمور لا أستسيغها، لكني في النهاية حصلت على إذن السماح بالسفر لمرة واحدة، وهكذا خرجت ولم أعد، لأنني كنت قد وصلت هناك إلى مرحلة لم أعد أستطع التأقلم أكثر مع الوضع، وكذلك قسم كبير من رفاقي خرجوا، لكن هناك من بقي لظروف شخصية أو عائلية أو لم تتوافر لديهم الفرصة أو الإمكانية، ولكن لدى الجميع تفكير واحد، وهو أنهم لا يستطيعون هضم واستساغة كل ما يجري في المجتمع والدولة.
* إلى أي درجة نستطيع القول أن الإغتراب عذبك نفسياً؟
ـ قبل أن آتي إلى الإمارات توافرت لي فرصة الخروج إلى أوروبا، إلا أنني رفضت وفضلت المجيء إلى الإمارات، فالسوريون سواء كانوا ماركسيين أم قوميين أم إسلاميين أم حياديين فطابعهم ميال للقومية، ومشاعرنا تلك كبيرة، ونشعر بأن الوطن العربي واحد، وبأنه وطننا، ولهذا لم أشعر بالغربة هنا، إنما بالتماهي والاندماج والالفة مع المكان في الامارات هذا البلد الذي أحببت، وندمت لأنني لم آت إليه قبل ذلك، فهو جميل ورائع ويمنحني الاستقرار كثيراً، لدرجة أنني طلبت من زوجتي إن مت هنا أن تدفنني في هذه الأرض، ولا تعيدني إلى سوريا.
* سوريا الآن تعيش وضعاً استثنائياً على مستوى تحرك قسم لا يستهان به من الشارع السوري بكل فئاته، فهل جاء هذا التحرك في وقته، وكيف تراه؟
ـ لا لم يأت في وقته، كنت أتمنى ـ كأمنية وليس كقوانين وحتميات تاريخية ـ أن يكون الحراك في 17 تشرين، أي في اليوم الثاني لانقلاب حافظ الأسد الذي تم في 16 تشرين الأول 1970، ولوحدث ذلك لتجنب الشعب السوري آلام 41 سنة، ولتجنب التدمير الذي طال الحياة، والبنية الإنسانية، ولكان مجتمعنا من أفضل المجتمعات على مستوى العالم، وبعدما يئسنا من تغير الوضع فكر الكثير من المثقفين في إعادة دراسة مفهوم الشعب، وهل هناك شعب، وهل هو صاحب القرار، وهل.. وهل.. غير أن التحرك الذي بدأ في تونس فاجأ كل الناس، وأعاد إلينا الأمل، واليوم ما يحدث في سوريا هو ثورة شعبية تضم كل أطياف المجتمع وفئاته العمرية، يضم الشباب والكهول والأطفال، الرجال والنساء، الطوائف الدينية والمذهبية والقومية، ثورة شعبية أعادت الأمل لكل السوريين داخل وخارج سوريا.
* هل هذا الحراك الشعبي بحاجة إلى تنظيم؟
ـ أنا بعيد عن الحدث، لكن لا أشك بأن الناس يملكون قدرة على ابتكار وسائل التنظيم، فهذه الحركة الشعبية تخلق وسائلها وقياداتها أيضاً من خلال صيرورة الحركة، وأتمنى على المعارضة السياسية التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب ألا تتدخل بالتنظيم أو بالتنظير، فالناس ينظمون أنفسهم، وبالنسبة لي شخصياً لست قلقاً على التنظيم، ولا على القيادات البديلة، ما يهمني هوشيئ واحد فقط، "ذهاب هذا النظام"، ومن سيكون خلفاً له سيكون أفضل منه مهماً كان سيئاً، فمنذ أيام معاوية بن أبي سفيان وحتى الآن لم ولن يمر على سوريا نظاماً أسوأ من نظام البعث، وحاكم أسوأ من حافظ الأسد، كما لم يُقتل ويُسجن ويُهجَّر من الشعب السوري نفس القدر الذي قتله وسجنه وهجّره حافظ الأسد، فخلال 30 سنة ووفق التقارير قتل بين 100 ألف و150 ألف، سواء عبر المجازر أو في السجون، ولو اعتبرنا أنه قتل 100 ألف فقط فهذا معناه أنه كان هناك يومياً على مائدة إفطارحافظ الأسد جماجم 10 شباب سوريين، وإلى جانب ذلك كله فقد شوّه شعب سوريا بأكمله، بما فيها من طليعة ومثقفين، حتى من ناوأه وعاداه تشوّه بفعله.
* أين النخب السياسية من هذا الحراك؟
ـ شخصياً لا أتمنى أن تتدخل فيه، لأنها الوجه الثاني للنظام، فالحركة هي حركة شباب عفوية، فلماذا لا نترك الأمور تمشي كما هي عليه إلى أن نتخلص من النظام، ومن ثم بإمكان كل واحد أن يدلو بدلوه، مهمة النخب الرئيسة والأساسية، هي دعم الحراك الشعبي حتى ينجح، ومن دون التأثير فيه أو تشويهه.
* بدأ ربيع الثورات العربية بحوادث صغيرة، ففي تونس صفعت شرطية محمد البوعزيزي صاحب عربة الخضار، وفي مصر قتل الشاب خالد سعيد على أيدي رجال الشرطة، وفي سوريا تم سجن وتعذيب مجموعة من الأطفال لأنهم كتبوا على جدار المدرسة "الشعب يريد إسقاط النظام"، ما دلالات كل هذا؟
ـ ببساطة وصلت المجتمعات العربية إلى درجة لا يمكن تصورها من الاحتقان، وكانت تحتاج إلى أبسط الأسباب للانفجار، والنظام السوري بقدر ما يبدو قوياً وصلباً ومتماسكاً وجباراً من الخارج، إلا أنه هش من الداخل وإلى أبعد درجات الهشاشة، وضعيف إلى أبعد درجات الضعف، وبالتالي سيصل الحراك الشعبي في سوريا إلى مرحلة الذروة التي تتمثل بانهيار النظام، وسيكون انهياره صاعقاً، ولن يحتاج إلى زمن طويل .هكذا تنهار كل الأنظمة اليكتاتورية والاستبدادية.
* لكن هناك من يقول أن النظام سقط منذ البداية من خلال فبركة الأكاذيب المختلفة والمتنوعة؟
ـ ربما سقط بالمعنى النفسي والأخلاقي والشرعية الشعبية أيضاً، لكننا نريد سقوطاً مادياً، بحيث لا تكون هناك مؤسسة الرئاسة الحالية، ولا الأجهزة الأمنية، ولا الحرس الجمهوري، وآمل أن تعود سوريا بلداً حراً ديموقراطياً، ويكون الشعب كله على قدم المساواة، وأن يعيش السوري في بلده وهو ليس خائفاً وذليلاً، هذه هي سوريا التي نريد.
* أليس لإسقاط تماثيل حافظ الأسد، وحرق أو تمزيق صوره وصور ابنه دلالة؟
ـ قد يكون لهذا دلالة رمزية، لكني لست محكوماً بالأحجار التي تشكّل منها تمثال حافظ أسد، أو القماش الذي رسمت عليه صورة بشار الأسد، إنما أحكم على المادة الموجودة على الأرض، وهي الدولة الأمنية التي يجب أن تزول من سوريا وإلى الأبد.
* بعض الأصوات تعترض على انطلاق المظاهرات من المساجد والجوامع، ما موقفك من هذا؟
ـ لا يعنيني المكان الذي تنطلق منه المظاهرات، حتى وإن نزل المتظاهرون بالباراشوت، أو من المريخ، ما يعنيني هو قيام المظاهرات التي تعبّر عن الشارع السوري، وبسبب هذه الانتفاضة أو الثورة الموجودة في سوريا هناك إعادة صياغة للهوية الوطنية السورية، تلك الثورة هي من يعيدهذه الصياغة.
* يطلق المتظاهرون أسماءً على أيام الجمعة، فهل من دلالات لذلك؟
ـ أخذ الشباب السوريون هذا التقليد من ثورة مصر، وبالطبع له دلالاته المهمة، والشباب وحدهم الذين يقررن وتيرة عملهم حسب إمكاناتهم وظروفهم، متمنياً أن يؤدي حراكهم هذا ـ سواء كان كل أسبوع أو كل يوم أو كل ساعة ـ إلى إزاحة الديكتاتورية، ثم إن ملابسات العمل داخل الساحة السورية ليست سهلة، وقد قال أحد الكتاب عن أول تظاهرة "هؤلاء مجموعة من الانتحاريين" سيقضى عليهم وينتهي الأمر، لكن مع الأيام ثبت أنهم قادرون على الاستمرار.
* من موقعك أولاً ككاتب ومراقب، ومن خلال تجربتك مع النظام السوري، ماذا رأيت في الخطاب الأول للرئيس بشار الأسد؟
ـ سئلت عن ذلك من قبل، وقد استشهدت بأحد شباب الفيس بوك الذي كتب على صفحته تعليقاً على ذلك فقال: "هناك أحد احتمالين، إما أن يكون كلام الرئيس فارغاً، أو أن يكون كلاماً مليئاً بالكلام الفارغ"، وأنا تبنيت وجهة نظره، لكن أضيف أمراً، وهو أن بشار الأسد يحمل قدراً كبيراً من الاحتقار للشعب السوري، وقد يكون هذا بسبب نشأته، لأن والده كان يعلمه وإخوته كيف يحتقرون الناس ويذلونهم، والاحتقار عندهم طبع، ومرة سمعت شخصين في المستشفى كانا يتحدثان عن عائلة الرئيس، وأثارا موضوع الاحتقار، فقال أحدهما محاولاً إثبات أن بشار أفضل من ماهر: "صحيح إنو بشار بيحتقر الناس، بس ماهر بيحتقرن وبيكرهن"، إن ما لفت انتباهي في الخطاب انعدام اللباقة، ففي الوقت الذي كان فيه شهداء درعا في الشوارع، ودماءهم لم تجف، كان هو ممتلئاً سعادة وفرحاً وسروراً بالتصفيق الذي صدر عن أعضاء مجلس الشعب، وكنت أتمنى أن يظهر قليلاً من اللياقة واللباقة الاجتماعية، وأن يأخذ موقف رجل دولة مسؤول ويظهر الحزن، سيما وأننا في سوريا تربينا على مراعاة مشاعر بعضنا، وخصوصاً في حضرة الموت الذي له هيبته واحترامه.
* وفي أي موقف ظهر مجلس الشعب؟
ـ سأختصر بحكاية، مرة كنت عند أحد مشايخ البدو في البادية السورية وكنا ننتناقش في السياسة السورية بعد أن سألته لماذا لايرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب، وبالصدفة مر راعٍ وأمامه قطيع غنم يهشه، فقال لي بلهجته البدوية: "تشوف هذا الراعي وهذي الأغنام"، أجبته: نعم، قال: " ان رقيب في المخابرات يقدر ياخذ عصا معه لمجلس الشعب، ويسوق بالعصا أعضاء المجلس كلهم بعدين يروح مجلس الورزا ويطالع كل الوزراء، ويروح القصر العدلي يطالع كل القضاة ويخرّجهم ويسوق الجميع مثل ما يسوق هذا الراعي الغنم"،هذه حال السلطات الثلاث لدينا . ما أريد الوصول إليه أن هؤلاء لن يغيروا ولن يبدلوا حتى لو تغيروا.
* طلب الرئيس من الحكومة عمل أقصى ما تستطيع للإصلاح بعد أن قدم مجموعة من المراسيم، برأيك أين كانت تصب كلمته تلك؟
ـ عملياً استطاع النظام أن يحقق نجاحاً تكتيكياً من خلال تصويره أن الصراع كله يتمحور حول الغاء حالة الطوارئ، وأنه إذا قام بإلغاء هذه الحالة فإنه يكون قد لبى مطالب المتظاهرين، وأكثر من وقع في هذا الفخ هي وسائل الاعلام، وكرجل قانون وسجين أقول أن إلغاء حالة الطوارئ لا معنى لها في سوريا لأنها ليست مشكلتنا، فهي موجودة منذ سنة 1963، وبقيت الدولة تتقيد بها حتى سنة 1970، ولاحقاً لم يعد لها معنى، لأن ما كان يجري في سوريا يفوق كثيرا كل قوانين الطوارئ مجتمعة في العالم، لكن الطلبات الأساسية أهم من ذلك بكثير، وأمام الثورة في سوريا"بعد انصارها " عملاً هائلاً جداً قد يمتد لسنوات لتكون ديموقراطية، وقبل ذلك يجب أن تمتد مطالب الثورة إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإلغاء الدستور وكتابة دستور جديد لسوريا ديموقراطية حرة، وعمل نظام انتخابات جديد وعصري، وإلغاء كل القوانين والمراسيم التي أطلقت يد الأجهزة الأمنية في المجتمع السوري، وإلغاء أمن الدولة، وتحجيم الأمن العسكري بما يتناسب مع متطلبات وحاجات الجيش، وكف يده عن التدخل في الشؤون المدنية، وحل كل الأجهزة الأمنية بما فيها الأمن السياسي ، هذه هي الخطوات الأولية السريعة، وما تبقى يتطلب عملاً هائلاً على المستويين التشريعي والعملي كي نستطيع وضع سوريا على طريق الديموقراطية.
* تحدثت عن إعادة صياغة دستور جديد، فهل يوجد مخالفات في الدستور الحالي؟
ـ الدستور الموجود في سوريا الآن هو دستور "حافظي" فُصِّل على قياس حافظ الأسد، ولهذا إما أن يُلغى لأنه لا يصلح لدولة تريد الديموقراطية، وإما أن يعاد الدستور الذي كان موجوداً في بداية الستينيات أو ما قبلها، وإما أن يوضع دستور جديد، ولو تم وضع دستور جديد لا بد من تشيكل لجنة لإعداده، تكون مكونة من كبار رجال القانون والفقهاء والمستشارين القانونيين، مع ضرورة الاطلاع على دساتير دول أخرى، كما يجب أن يكون هناك توزيعاً متوازناً للسلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وبقية مسؤولي الدولة، بحيث لا يكون رئيس الدول نصف إله أو ثلاثة أرباع اله، وكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيده كما الحال في الدستور السوري الحالي، مع ضرورة ضمان التنفيذ الصارم لمبدأ فصل السلطات في الدستور الجديد.
* أمام الجرائم بحق المتظاهرين السوريين هل بالإمكان القول أن الجهاز الأمني يمارس صلاحيات الرئيس؟
ـ النظام السوري غير شفاف، ولا يستطيع أي أحد معرفة ما الذي يدور في كواليسه، ففي سنة 2000 كانت هناك مجموعة من الجنرالات وكبار ضباط الجيش من عهد حافظ الأسد، ولتجنب حرب تنافسية بينهم جاء بشار كمرشح تسوية بصفته الأضعف، لكن الكرسي الذي فرغ بموت الأب كان كبيراً جداً على الابن، وبالتالي صار هناك تمدد لمراكز القوى الموجودة في السلطة على حساب سلطة الرئيس، ولهذا من الطبيعي أن يكون لهذه المراكز دورها في صياغة القرار السياسي في سوريا كونها تشعر بأنها هي التي جاءت ببشار الأسد، ومن ناحية ثانية وهي الأهم أنها تدافع عن مصالحها، فهذه المراكز التي تتوزع بين الأمن والحرس الجمهوري تمتلك قوة حقيقية وهي جزء من الفساد، لا بل هي الفساد بعينه، وبالتالي فإن أي محاولة إصلاحية قد تضرب مصالحها ، ولهذا إذا أراد الرئيس أن يقوم بعملية إصلاحية أو امتلك قليلاً من بعد النظر للمحافظة على النظام ككل عليه تقديم الكثير من التنازلات، لكنه سيجد مقاومة فظيعة وكبيرة من قبل تلك المراكز التي تسيطر على الأجهزة الأمنية.
* وماذا عن الإعلام الذي يفترض أن يكون السلطة الرابعة؟
ـ لا يوجد عندنا سلطة رابعة، طالما أن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية غير موجودة، وسلطة الحكومة غير موجودة، فقط هناك سلطة مؤسسة الرئاسة التي قد يديرها بشار أو المجلس العائلي المصغر بمعاونة ضباط مراكز القوى، تلك السلطة التي تختزل كل السلطات، من السلطة الأولى وحتى السلطة السابعة.
* لا يملك الشعب السوري الثائر قدرة على نقل انتفاضته وثورته بسبب الحصار المفروض، وبناء على ذلك هل بإمكان العالم أن يتفاعل مع ثورته، ومع المشاهد المصورة من خلال أجهزة الموبايل، ثم بثها عن طريق مواقع مثل فيس بوك وتويتر؟
ـ كان التفاعل خلال الأيام التي مضت لابأس به، وكانت هناك تغطية من قبل الكثير من المحطات لما يجري في سوريا، فأهمية الموضوع السوري يفرض على المحطات نقله حتى وإن كان مصدر الصور اليوتيوب أو من الموبايل، وأعتقد أن التغطية الإعلامية الغربية والعربية لابأس بها ضمن الظروف المتاحة، قد يكون هناك من الأحداث ما لم نسمع به بسبب التعتيم الإعلامي، ومع ذلك ما يزال الموضوع السوري حاضرا وموجودا في كل نشرات الأخبار في أهم المحطات الفضائية والإذاعية، وكله بفضل الشباب، وليس بفضل الإعلام السوري.
ثم إن نقل الأحداث يبين الفرق بين أحداث حماه والأحداث التي نعيشها الآن، ففي حماه تم تدمير مدينة بأكملها قتل فيها حوالي 40 ألف إنسان ومن دون أن يوثق ذلك بصورة فوتوغرافية واحدة، واليوم الثورة فيسبوكية،ثورة الشباب التي أتابعها لأنني مؤمن بها، وبما أنه لا يجب على ديناصورات السياسية أن يتدخلوا في ثورة الشباب، لذلك علي ألا أتدخل كي لا أصير ديناصوراً، لكني لا أتوانى عن تقديم أي دعم للشباب مفجري الثورة، وأقول دائماً أن جيلهم أفضل من جيلنا، وأكثر عملية .
* إلى ماذا يحتاج هؤلاء الشباب؟
ـ فقط لدعاء الأمهات، فهم يملكون كل شيء، هم لم يستعينوا بأحد، ولم يأخذوا توجيهات من أحد، ولم ينظّر عليهم أحد، منطلقين من دافع ذاتي، ومن الإحساس بالحرية الداخلية، وهذا ما دفعهم للنزول إلى الشارع ولبس الكفن.
* في كل ثورة مواقف مضحكة، ولكل ثورة تعليقات وشعارات وأغنيات، فهل ترى أن ملامح تلك الأمور بدأت تتضح الثورة السورية ؟
ـ الثورة السورية مؤلمة بسبب قتل شبابنا وأطفالنا، ومن ناحية أخرى فيها العديد من الصور المشرقة والرائعة، وقد لفت انتباهي التواجد النسائي الضخم في حمص بساحة الساعة، ولهفة الشباب على بعضهم حين يصاب أحدهم، حيث يعرضون أنفسهم للخطر لإسعافه، وشهود العيان الذين ينقلون الأخبار وهم يعرفون أن الأمن السوري قادر على تتبع المكالمات، لكنهم يخاطرون بكل شيء من أجل نقل الخبر، وأي واحد منهم أفضل من وزير الإعلام نفسه، فهو لا يكذب ولا يحابي ويتكلم بموضوعية وبهدوء، ومن هنا كسب شهود العيان مصداقية عند المحطات، وأعجبتني وأبكتني أغنية سميح شقير، كل ما ذكرته وسواه صور مشرقة ستدون ويكتب عنها، وهي تعيد تشكيل صورة الانسان السوري.
* في تلك الأحداث هل حول الشباب بعض الشخصيات السورية المناصرة للثورة إلى أيقونات؟
ـ هناك شخصيات لا يمكن إلا أن نقف لها بإجلال واحترام " الأستاذ هيثم المالح، وجورج صبرة، ود. عارف دليلة، فايز سارة، وغياث عيون السود" وهناك أسماء كثيرة دفعت الثمن، وعادت للسجن مرة أخرى، فهؤلاء كلهم محترمون، ولديهم قدرة عالية على التضحية، والناس يصدقوهم، لكن لماذا الأيقونات، فإذا كان عندي أو عند سواي رأياً صائباً فهذا لا يعني أنهم يجب أن يكونوا أيقونات، فالجميع يؤدون واجبهم.
* هل توجد ثورة مضادة الكترونية؟
ـ من الطبيعي وجودها، وهناك مصدرين للثورة المضادة، مصدر يتمثل بقسم المعلومات في أجهزة المخابرات، والذي جند آلاف العناصر للتشويش على شباب الفيس بوك، ومصدرآخر يتمثل بالشباب الذين لا علاقة لهم بالمخابرات لكن لهم رأيهم، ويعتقدون أن النظام جيد، ونحن نحترم رأيهم وبحرية إبدائه، ويجب أن نعتاد على جو الديموقراطية، وقد تكون هناك شريحة اجتماعية محصورة بمنطقة أو بمصلحة معينة لكننا نحترمهم، المهم ألا يكون هناك لغة تخوين أو إسفاف في الحديث.
* ابنتاك من الجيل الجديد، كيف تتابعان الأحداث؟
ـ كما هو هذا الجيل، فهما تتفاعلان مع ما يجري، وأعتقد أن هذا الجيل أفضل من جيلنا، صحيح قد ينقصه القليل من الرومانسية، لكنه عملي، ويذهب إلى هدفه بخط مستقيم، ويمتلك من الشجاعة الكثير، وحسه الوطني عالٍ فاجأ الجميع به، كما أن إيمانه بالوطن متجذر وعميق وكبير، ولديه قدرة على التضحية والفداء.
* أخيراً.. هل تحطمت جمهورية الخوف؟
ـ نعم، قد لا تكون تحطمت 100% لكنها تحطمت بنسبة معقولة، ونحن في مرحلة إتمام التحطيم، ثم تأتي مرحلة البناء، ونحن لا زلنا في الجزء الأول من الفصل الأول من الثورة، أي تحطيم جدران الرعب والخوف والصمت.